المقالات

بلاغة د. السلمي في “خمسينية” أدبي جدة

سعدت مساء الثلاثاء الماضي، بحضور انطلاقة فعاليات “ملتقى قراءة النص 20” بنادي جدة الأدبي، والواقع أنها كانت ليلة رجبية وارفة، حفلت بأمسية ثقافية رائعة، عنوانها الأبرز احتفال “أدبي جدة” بمرور خمسين عامًا، وعطرها الأجمل تكريم معالي الدكتور عبد الله المعطاني.

الاحتفالية دارت في فلك أدبي صرف، وقد أثارت انتباهي كلمة رئيس مجلس إدارة أدبي جدة، الدكتور عبدالله عويقل السلمي، وقد وقف فيها ثلاث وقفات، أثنى في أولها على القيادة ملكًا وولي عهدًا، ووجه الشكر لأمير المنطقة ونائبه، وواصل بشكره لكل من كان له دور في دعم مسيرة النادي من قريب أو بعيد .. وجاءت وقفته الثانية عن فارس تلك الليلة المكرم، معالي الدكتور عبدالله المعطاني، وقد ابتدر كلمته مادحًا المعطاني بجملة جامعة مانعة، معتبرًا إياه رمزًا وكمًا من أضاميم المعرفة والأدب والشعر والنقد.

ثم انتقل بسلاسة إلى وقفته الثالثة، وقد تضمنت حديثًا ذا شجون عن أدبي جدة، ومناسبة مرور خمسين عامًا على إنشائه ، تورى في حديثه كلام مغلف آثر أن يعبر عنه بالتعريض لا التصريح، مشتملًا إيحاءات غير مباشرة ربما لأشياء في نفسه، لكن هذا التبطين ليس واضحًا لمن لا يفهمه وفي المجمل، فقد شدت انتباهي، وجذبتني تلك الكلمة البليغة الفصيحة البارعة، التي أقل ما توصف به أنها جميلة، فقد أثرتني وتخيلتها ديباجة، وكأنها منسوجة بخيوط من حرير خالص، من سندس واستبرق، مفرداتها مرتبة ومحلاة، تخدم الهدف منها، وتعبر عن أديب يمسك بزمام الكلمة، يستحق موقعه بكل جدارة واستحقاق.

وقد شنفت آذاني بكل ما فيها من تراكيب، فالكلمات نوافذ مشرعة تأخذنا بجمالها إلى ما هو أعمق، وفضلت أن أسجل إعجابي بتلك الليلة وبما فيها وقد كان، وكم أود أن تسجل مثل هذه المفردات والمعاني الرقراقة في سجل يحفظها ويتعلم منها الأجيال، في كيف تدار اللقاءات، وكيف ترتب الكلمات وتؤتى ثمارها.

إن مثل ما تفوه به الدكتور السلمي لا يقل عن جمال الشعر وروعة القصة وإمتاع الأنشودة وفحوى المقال، وتلك الكلمة تناول فيها مسيرة النادي الأدبي خلال خمسين عامًا، واصفًا ومادحًا من اعتلى صهوة جواد النادي، ومن مر عليه من الرواد والأدباء العظماء، كيف لا وهو الأديب الأريب الذي لا ينكر جهود الأماجد.

استطرد د. السلمي شجنه حول النادي على أكمل وجه، وهو الذي أدى دوره، وكان الصرح الشامخ، سائرًا برسالته الأدبية والثقافية، حاملًا هموم وشجون الأمة، ومعبرًا عن دوره بقوة وريادة وجسارة دون كلل أو ملل وجاء ضمن كلمته نصًا:
(هذا النادي هادن دون أن يهدأ، وسالم ولم يستسلم، وأخذ بتلابيب الحداثة لتصافح وتصالح التراث، أتم الخمسين عامًا وملتقاه موعد، ومنبره موردًا، ظل كقوس الشماخ بن ضرار الغطفاني في قوله يصف القوس:
إذا أنبض الرامون عنها ترنمت …ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز).

مشبهًا صمود النادي وقوة وظيفته وسمو قيمة وأعماله الرائدة، بصلابة قوس الشماخ التي عاصرت صاحبها ردحًا من الزمن، زادها اعتزازًا ولما اضطر إلى بيعها أبى إلا أن تباع بمثل أسعار التلاد الحرائر، وحتى وإن بيعت فسينبت من جذورها أخرى مثيلتها، ولا تقل عنها جودة وقيمة ومكانة، وهذا يدل على تلميحات بما ينتظر النادي ويئن به صدر السلمي.
ومن عباراته أيضًا:
(هذا النادي شجرة أثقلت أغصانه ثماره، يمتد الزمن والنادي كالروض الغرب لن يصمت، وكالقبس المضيء لن يخبو وكالغرس في خصب الأرض لن يذبل، ولو سوحت من حوله المنابر. كان منبرًا جريئًا حين كان الإفصاح حديثًا مكتومًا، اعتلته قامات من الأمراء الوزراء والأدباء والشعراء، فتغنى عمر أبو ريشة بثنائية السيف والقلم، فأصغت له الأسماع واهتزت له القلوب، وأقام أبو تراب كبوات اليراع ونثرا لمسدى طرحه وفكره وتلا الثبيتي بصوته الأجش حائيته المشهورة.. والقائمة تطول
هذا النادي خُلق تاريخًا لتقرأه الأجيال على مكث وبصيرة، لا أريد أن أجتر مواريد الأمس ولا تحسبوا أن أرى إشراقة الماضي أكثر ألقًا من ضحى اليوم ..
ومما قال:
وإذا كنت أحسن البكاء فأنا من أحفاد صخر الذي أمطرته بدموعها الخنساء لكنني دائمًا أرى سهلًا على بعض المتخاذلين أن يجدوا حائطًا يبكون حوله.

وقد عبر عن ارتباطه القبلي أو “ثقافته القبلية” كما أسماها الدكتور مرزوق بن تنباك وانتمائه لتلك القبيلة القيسية المضرية قبيلة سليم بن منصور أخوال المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ حيث قال في حديثه الشهير أنا ابن العواتك من سليم.
وقد أفصح الدكتور عبدالله السلمي بامتداده لعائلة آل الشريد وأنه حفيد لصخر ابن الشريد أخو الخنساء الشاعرة، وهم من سادات وأشراف العرب وملوك سليم في الجاهلية الذين منهم أبو الخنساء كان من وفود العرب على كسرى لمكانته وفصاحته، وكان يأخذ بيدي ابنيه معاوية وصخر في الموسم حتى يتوسط الجمع؛ فيقول بأعلى صوته أنا أبو خيري مضر فمن أنكر فليغر فلا يغير عليه أحد فتقر له العرب.
واستطرد قائلًا ومضيفًا:
إن النادي كان وما زال وسيظل صرحًا للإبداع يقبل عليه قوم ويتنكبه ويتنكر له آخرون، والمتنكرون كناقف حنضل حسب امرئ القيس، وكشواهد قبور حسب محمود درويش، وقاعدة الحياة عندي تقول من استبدل الطارف بالتليد فقد يخسرهما.
ثم استطرد عن النادي، قائلًا:
لن يخلع عن جلده قلائد الجمال وأوشحة الإبداع فها هو يتم الخمسين ويتطلع لإضعافها؛ ليبقى كما كان محجًا للأدباء ومقصدًا للنقاد والشعراء، وهم على منبر بين مصلي والمجلي يستظل به من أعنته هجير الأمنية بوارف الطرح والاحتفاء ويستدفئ فيه من أرجفة زمهرير الغثاء، ويستضيء به من أغبشه تشوف المستجلب.
ثم اختتم كلمته متفائلًا بما هو آتٍ من تحولات عامة ومستقبل للنادي زاهر.
مبشرًا بأن النادي ما زال في ريعان الشباب ومكتمل العمر، ولن يخنى عليه الدهر ولن يخرب ولن يرتحل بطول الدهر، وأن أطلاله باقية وسيعيش قدر عمر سبعة أنسر من نسور لقمان، ولا مكان لقول النابغة: (أخنى عليها الذي أخنى على لبد) هذا قليل من الإعجاب الذي أطرقني وودت أن أكون قد وفقت فيما جاش بداخلي وهنيئًا لمن يعيش في الأدب؛ فلا ينفك كل يوم يتغذى بروافده فتورق النسمات من حوله طيورًا شادية ومناظر بديعة وموسيقى خلابة.
…والسلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى