بقلم/ محمد بربر
“عشر قصص تضمنتها مجموعة “أول فيصل” للكاتب الدكتور أشرف الصباغ، والتي صدرت قبل أشهر قليلة عن دار “روافد”، وتقع في 126 صفحة، تكشف عن تمكّن السارد من صياغة المشاهد لتتحول النصوص إلى دراما تتنوع أبطالها، مرسومة بلغة بسيطة ممزوجة بألفاظ عامية أحيانًا وأمثال شعبية في أحيان أخرى، وكل قصة تزخر بأحداث عديدة، يراها الكاتب تخدم النص دون إسهاب.
تأملات فلسفية في لمحات قصصية مكثفة
يتواتر الحكي في قصص المجموعة عن الشخوص والأماكن والتحولات المربكة والحيوات التي عاشها أو تناقلتها الألسنة أو خبرها من أحد معارفه، لكنه في كل مرة يعبّر عن انحيازات المؤلف ومواقفه وتأملاته وفلسفته، معتمدًا في ذلك على زخيرة من أعماله الأدبية التي كتبها أو ترجمها، بحس ساخر يفضح زيف الواقع أو يدعو للتمرد عليه.
وعناوين أشرف الصباغ بسيطة دالة لا تبحث عن التزيّن قدر التشخيص الذي يناسب المشهدية، كما في “أول فيصل” و”دنيا” و”البروليتاريا الكلبة”، كما جاءت بعض العناوين خفيفة الظل ومدهشة تحرض القارىء على مشاكلة الكاتب في أفكاره المتنوعة ونرى ذلك بوضوح في “بوظة الست هوانم” و”المرأة ذات المعطف الكاكي” و”نظرية الحمار” و”راوتر”.
يستهل مؤلف “أول فيصل” مجموعته بقصة “راوتر” والتي تفضح سيطرة وسطوة الإنترنت وكيف أثرت هذه الشبكة المجنونة في الأسرة، ويطرح السارد رؤيته في جمل مكثفة قصيرة، إذ يستغل فترة انقطاع الخدمة ليقول: “خير وبركة، يمكنني أن أستريح قليلا”، لكنه سرعان ما يتراجع عن اعتقاده حين يتابع الحكي “بعد خمس دقائق، شعرت بملل فظيع”، حقيقة واقعة تطاردنا دائمًا، رغم تعلقنا بالنوستالجيا وحنين الذكريات المؤلمة والبحث عن نصف ساعة دون أن تحبسنا هواتفنا المحمولة.
في قلب المنزل، تبدو العلاقة غريبة بين الأب والابن الذي يخرج من غرفته ليرتمي في حضن الأب، في فانتازيا خلقتها التكنولوجيا، يبادره الابن بعد أن قبّله وبكى بكاء مريرًا “وحشتني أوي أوي يا بابا، بس والله شكلك ما اتغيرش كتير عن زمان”، ويشاركه السارد “كنتُ أشعر بحنين إلى ابني الذي أحبه أكثر من أي كائن آخر في العالم، كانت عيوننا دامعة”.
يدور حوار – رغم بساطته – إلا أنه أضاف الكثير إلى القصة “قاطعني بحب واشتياق وقال: (سيبك إنت من أخباري. يا بابا! حضرتك عامل إيه، وهل إنت أجازة النهاردة من الشغل ولا مزوغ كالعادة؟).. قلت له: ل أده أنا طلعت معاش من سنين.. يا ابني، لكن إنت فين دلوقتي؟”.
لم يكن يعرف السارد أن الابن تخرج وعمل في شركة محترمة – على حد قوله – كما لم يكن يعلم أن ابنته الكبرى قد تخرجت بتقدير ممتاز وتعمل في مكان مرموق، فقد خرجت فجأة من غرفتها وألقت بنفسها في أحضان والدها وراحت تبكي، ثم انتقلت لتحتضن أخيها وتعاتبه على طول الغياب، ثم توجهت إلى المطبخ وراحت تغلي شيئا ما أحمر اللون، قالت إنه مشروبها خلال السنوات العشر الأخيرة.
سطوة الإنترنت وتفكك الأسرة
هذه الفانتازيا الصارخة لم يكتب لها نهاية بعد، فقد خرجت الابنة الصغرى وراحت تمطر والدها بالقبلات، قبل أن ينفتح باب غرفة الزوجة بهدوء وحذر وكأن هناك صعوبات ما في مفصلاته، لتندفع السيدة إلى أحضان زوجها باكية متسائلة “إنت هنا في مصر وأنا ما اعرفش، أنا فاكراك لسه متغرّب يا حبيبي”.
يشعر الزوج باللحظة الرومانسية ويحمد الله على جواره لأسرته أخبرها أنه أنهى عقده في الخليج منذ فترة طويلة، بعد أن عانى كثيرًا من أهوال الغربة، ثم يعود ليخبرها “بس انتي ما شاء الله عليكي وكأن الزمن ملوش دعوة بيكي خالص يا روحي”.
قررت الزوجة أن تنعم الأسرة في هذه اللحظة التاريخية المجيدة بالغداء معًا، لكن صوت طقطقات صادرة من الغرف وأصوات تنبيهات تؤكد عودة إشارة “الواي فاي” والإنترنت أصبح متاحًا.. صافحوا بعضهم بعضًا وعاد كل منهم إلى غرفته، وفي خاتمة ذكية يقول السارد: “أغلقت باب غرفتي وأنا في قمة السعادة للقائي بهؤلاء الناس الطيبين المهذبين”.
وفي قصة “مونيكا” يسلط الكاتب الضوء على أجواء هذه الفترة التي كان يمارس فيها الناس لعب الكرة “الشراب” في الشوارع، وتزدحم السينما في المناطق الشعبية الفقيرة بالمتسولين واللصوص والمتحرشين وبائعي الحبوب المخدرة، كما يكشف عن انحياز بعض الأشخاص إلى أجدادهم من الأسر الارستقراطية وإن كان ذلك مجرد ادعاء، أو محاولة للتجمّل والتخلص من الواقع المرير، فنجد أم الكاتب تحدثه عن والدها وكان عمدة في إحدى قرى وسط الدلتا، ويقولون: إنه من أصول إيرانية، وأحيانًا يؤكدون أصوله التركية.
يشير الكاتب إلى أنه ينتمي إلى أسرة عجيبة تعتبر نفسها من الأرستقراطية البائدة، وأن كل حكومات مصر مسؤولة عن تجريدها من أملاكها الواسعة، وكأن نسبهم ربما يعود للجد الأول لملكة بريطانيا العظمى. لكن الطفل كان قد تعلق بصديقته القمحية ذات العيون الخضراء المتوحشة والرموش السوداء والشعر الفاحم، والشفتين الصغيرتين الممتلئتين، يقول: مونيكا لا تشبه إلا نفسها.
ورغم تجول السارد في الأماكن التي عاشت قصة الحب الهادئة، بجوار مدرسة النقراشي ومقام سيدي “غراب” وبالقرب من مبنى المخابرات العامة الذي يحتل موقعا متميزا ويقف شامخًا وغامضًا في مواجهة سور قصر القبة، إلا أن قلبه ظل معلقًا بالصبية الحلوة ذات المفاتن الاستثنائية، ولكن لسبب ما تنقلب أمه على أم مونيكا، فيؤكد “لم تكن المسافة بين بيتينا بعيدة، والبعيد تصله النساء عندما يردن، ولكن عندما يتمردن فأفسح لهن الكوكب قبل أن يحترق وتحترق أنت وأجدادك معه”.
ينزل المؤلف في هذه القصة إلى عوالم عشوائية تجدها بسهولة داخل دور السينما في بعض الأماكن الفقيرة، مثل سينما “فنتازيو” في الجيزة وكان يخطط للذهاب مع مونيكا إلى سينما هونولولو لكنه كان يخشى مصيرهما، وكأنه أراد أن يوثّق ما كان يعانيه العشاق من أهوال في الأحياء المهمشة بفضل عصابات السرقة والتسول وشهوات المغتصبين وأيادي المتحرشين وتجار المواد المخدرة.
مونيكا الغاضبة وفضاء النص
هذه القصة المشحونة بالعاطفة والبراءة والثقة والتعلق من الحبيبين تصطدم بنهاية ساخرة – كما عادة المؤلف- وقدرته على إضفاء أجواء الدهشة في سياق يتصل بنظرات الشخوص، يقول: “ضحكت في خجل. ووقفت أمامها، أمسكت بيديها، أخذت نفسًا عميقًا، بينما أغمضت هي عينيها، وراحت تتنفس بعمق وصعوبة حتى أن حركة صدرها بدأت تثيرني، فبحلقت في نهديها بشدة، وكدت أنسى اتفاقنا”.
لحظة رومانسية لطيفة يشتاق إليها الحبيبان، تحتاج إلى جرأة للتعبير عن النفس، لكن السارد يحكي عن خيبته “يبدو أنني تأخرت عليها، ففتحت عينيها مندهشة وابتسامة غريبة على وجهها، انتهزت أنا الفرصة، وأغمضت عينيَّ وقلت لها: (أنا بحبك أوي يا مونيكا من وإحنا صغيرين)، شعرت براحة غريبة وتملكتني حالة نادرة من البهجة والخفة وكأنني سأطير حالا وأحلق في الفضاء. وعندما فتحت عينيَّ. لم أجدها”.
وجاءت “أول فيصل” التي اختارها المؤلف عنوانًا للمجموعة لتكشف عن علاقة المواطن وأسرته وأبناء عمومته بالرئيس – كل رئيس – وتوضح علاقات فانتازيا تعلو الواقع، غير أنها تعود لتسقط خطابها الفكري عليه، فالكاتب مسكون دائما بالخيال، يتنقل بين شخص نصوصه بقدر من البراجماتية، في لمحات سريعة لكنها دالة.
الأم تقذف ابنها الأكبر بالحذاء لأنه يعارض سيادة الرئيس ويسخر من وعود الحكومة، ورغم أن السارد من أسرة مصرية بسيطة ومتواضعة يجري الوطن في عروق أبنائها، تربى هؤلاء جميعًا داخلها على الكلمات الوطنية الحميمة، ولا يمكن تجاهل فضل الوطن على أي منهم، أو إنكاره أو الجحود به، يقول الكاتب “في كل الأحوال نحمد الله ونبوس أيادينا وش وضهر لأن مصر بخير”.
يلتقي المؤلف صدفة مع الرئيس الذي ينزل بين الحين والآخر ليحدث الشعب ويتحدث معه وجهًا لوجه، دون وسطاء، ذلك حين همَّ المؤلف أن يستقل سيارة أجرة لينتقل من أول فيصل إلى بيت ابن أخته في بولاق الدكرور، وألقى تحية الصباح على السائق الذي رد بصوت خافت، دون حتى أن ينظر إلى الرجل، وكان يفعل كل شيء على خلاف سائقي التاكسي الذين يجيدون الرغي والكلام الفارغ وفتح الحوارات وتصديع الدماغ.
يحكي المؤلف في “أول فيصل”: “فوجئت بأنه يشبه سيادة الرئيس، وبتحدث بنفس صوت الرئيس، ونفس ضحكته الحلوة الجميلة المطمئنة، وملامحه الهادئة التي تبث الثقة والأمان في النفس، ولكن مهما فعل فأنا لست مغفلا، ولا حمارًا لكي أنخدع بهذا التمويه”.
يصطحب السائق ضيفه إلى المكان، لكن السارد يقرر أن يخبر الجميع، مستعينًا بأقاربه وجيرانه ومعارفه، فهذا الرجل يقلّد الرئيس، ويجب تأديبه وإبلاغ الشرطة عنه، يتجمع المارة، ويتكاثرون حول هذا الشبيه، ويشارك الجمع الغفير في تلقينه درسًا لا يُنسى، حتى كاد أن يموت، تأتي الشرطة للقبض على السائق الذي ينتحل صفة الرئيس، وبعد يومين من عدم ظهور الرئيس في وسائل الإعلام، وغيابه وغياب تصريحاته وانتشار الشائعات، أعلنوا عن وفاة سيادة الرئيس بشكل مفاجىء.