المقالات

هواة البين

هناك من لا همَّ له ولا شيء يرضيه إلا إذا رأي غيره تعيسًا. فسعادة الآخرين بالنسبة له هم يؤرقه، وهذه الثقافة البائسة ليست حكرًا علي الحب فقط بل تشمل حتى الدول فبعضها يحقد على الآخر، ويتمنى زوال نعمته؛ وخاصة إذا كانت هذه الدول تحكمها أقليات أو مليشيات لا يرتاح لها بال إلا بإثارة الفتن التي يغذي أوراها الحسد والحقد وحطبها العنصرية والعقائدية والمذهبية، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، ولكن مقالي اليوم مختص بشريحة من الحب الذي تختلف درجاته وأشكاله، ومن يقع في ذلك العشق، وإن كان عشقًا عذريًا أو روحيًا أو مجرد ارتياح بين اثنين تحول إلى اهتمام ورغبة في العيش المشترك تحت سقف واحد أو حتى بدون سقف في الهواء الطلق كما هما بطلا مقالي السابق سي مياو والآنسة بطة. لقد قدَّم لنا هذان المختلفان في جنسهما نموذجًا للألفة والصحبة غريب. فأحدهما حيوان والآخر من فصيلة الطيور فرغم ذلك جمعهما رابط قوي نتيجة العشرة، وربما اطلع الكثير من القراء على ذلك الزخم التي أحدثته قصتهما، وأصبحت حديقة البط مزارًا يؤمه الناس للاستمتاع برؤية كيف جمع الله الشتيتين ومن جنسين مختلفين. فأصبحا روحًا واحدة. في عالمهما الذي مهما بحثنا لا نستطيع أن نسير أغواره أو نتفهم سرائره، ولكن فوجئنا بمن لم يرضه ذلك الأنس والبهجة التي هما عليها، والتي انتقلت إلى البشر الذين كانوا يأتون من كل فج عميق لرؤية العاشقين؛ فيسعدون وفي نفس الوقت تعطي درسًا في كيفية التسامح والتصالح، وإن الود لا لون له ولا فصيلة. نعم فوجئنا بوضعهما في قفص ومن ثم رأينا القط لوحده يموء حزنًا بعد أن يد البين فرقته عن نصفه الآخر. مع احترامي لكل من شارك في ذلك المشهد الحزين. تمنيت أن يتنازل من يملك البطة عنها ويعيدها إلى الحديقة ويجمعها مع وليفها؛ فهي لا تغني ولا تسمن من جوع. ولو كان لي من الأمر شيء لحدثت تلك الحديقة، وجعلت محورها ذلك القط وتلك البطة وما يلزم من بعض الإضافات والإبداعات مثل: الإضاءات المختلفة وغيرها. قد يقول قائل إنهما مجرد “حيوانان” وحياتهما غالبًا قصيرة فأقول ما قاله الشاعر جميل الزهاوي.
فضل العاجل القريب على الآجل-
إن كنت حازنا ذا حصاة.
ساعة للسرور من وقتك الحاضر –
خير من ألف ماض وآت.
إنما الموت في السكون الذي- لا
ينتهي والحياة في الحركات.
كل يوم يدس في القبر ميت-
والفتى ليس فيه غير رفات.
اغتنمها فانت بعد قليل-
واحد من أولئك الأموات.
إن الفراق مؤلم فلا نقسو ونلوي عنق الود لأنهما من غير البشر؛ فيكفي أن لهما أفئدة تستحق الاحترام؛ وحيث إني لا أملك لهما من الأمر شيئًا؛ فإني أعزيهما بأبيات من الشعر وكأني أقول لهما مع الأسف هكذا الدنيا حلول وارتحال. ولقد ابتلي البشر بآلام الفراق. فلا تجزعا فقد سبقوكما في الاحتساء من شراب قدح الفراق المر والحزين.
يقول أبو فراس الحمداني:
راقبتني العيون فيك فأشفقت- ولم أخل قط من إشفاق.
ورأيت العذول يحسدني فيك- مجدًا يا أنفس الأعلاق.
فتمنيت أن تكوني بعيدًا- والذي بيننا من الود باق.
رب هجر يكون من خوف هجر- وفراق يكون خوف فراق. وقال إسحاق الموصلي: تقضت لبانات وجد رحيل.-ويشف من أهل الصفاء غليل. ومدت أكف للوداع تصافحت- وكادت عيون للفراق تسيل. ولا بد للإلفين من دمع لوعة- إذا ما الخليل بان عنه خليل. غداة جعلت الصبر شيئا نسيته- وأعولت لو أجدي عليك عويل.
ويقول الشاعر معروف الرصافي. :
وكنت أظن البينَ سهلًا فمُذ أتى
شرَى البينُ مني ما أرادَ وباعا

وإني جبانٌ في فِراق أحبتي
وإن كنت في غيرِ الفراق شجاعا

كأني وقد جدَّ الفِراق سفينةً
أشالت على الريح الهَجوم شِراعا
وأما الشاعر البعيث المشاجعي فقال:
جُهدُ الصَبابَةِ أَن تَكونَ كَما أَرى
عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ

ما لاحَ بَرقٌ أَو تَرَنَّمَ طائِرٌ
إِلّا اِنثَنَيتُ وَلي فُؤادٌ شَيِّقُ

جَرَّبتُ مِن نارِ الهَوى ما تَنطَفي
نارُ الغَضى وَتَكِلُّ عَمّا تُحرِقُ

وَعَذَلتُ أَهلَ العِشقِ حَتّى ذُقتُهُ
فَعَجِبتُ كَيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ.

خاتمة.. رجاء أعيدوا لحديقة البط تلك البهجة؛ فقد افتقدها الناس قبل القط والبطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى