المقالات

ظهير

في السيرة النبوية درر تذهل اللبيب من جمالها، وحياة سيد الخلق -عليه السلام- الزوجية تُعد مثالًا يُحتذى أبد الدهر في تقنين سبل التعامل النموذجية بين الزوجين مع حفظ حقوق كل منهما، وحبيبنا -عليه السلام- عانى من زوجاته مثل ما يُعاني كل الأزواج العاديين، غيرة وبُعدًا وأحيانًا كيدًا وانصرافًا وإغضابًا.
والله تعالى لا يتفوق لديه في المحبة على نبيه أحد، فاتباع سيد الخلق بوابة المرور لمحبة الله ومكانته -عليه السلام- في الدنيا والآخرة ليس كمثلها مكانة بين سائر البشرية.
لهذا كان المولى -جل وعلا- يُدافع عن نبيه من بعض ما قد يلحق به من زوجاته من ضيق وأذى.
الفاروق عمر يحكي قصة هذه الآية الكريمة: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم. 4).
في رواية أن ابن عباس سأل عمر عن المرأتين في هذه الآية فأخبره عمر أنهما عائشة وحفصة، وكانتا تتباريان على قلب ومحبة رسول الله، وكلنا نعرف أن عائشة ابنة الصديق وحفصة ابنة الفاروق، ومع هذا ظهر منهما بعض ما أزعج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
يحكي عمر فيقول:
“كنا معشر قريش قومًا نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: فغضبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت نعم.
قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت نعم قلت قد خاب من فعلت ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت، لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا وسليني من مالي ما بدالك ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم – أي أجمل – وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك يريد عائشة”.
ما أروعك يا فاروق ، يوجه ابنته إلى أن تتقي الله في زوجها سيد الخلق ويحذرها من إغضابه بل ويثير نقطتين هامتين هما: كيفية التعامل مع الزوجة إن اكتسبت بعض التصرفات الغريبة وتغيرت على زوجها، وكيف تتقبل الضرة تميز ضرتها وجمالها دون حسد وضغينة.
وبالفعل ذهب عمر بعدها لرسول الله -عليه السلام- يريد أن يطمئن على أنه غير غاضب أو مطلق لزوجتيه، فوجده في المشربة معتزلًا نساءه، لما وجده من معاناة من بعضهن أحيانًا.
ويكمل الفاروق قصته إذ طلب من بلال أن يستأذن للدخول على سيد الخلق -عليه السلام- فدخل وتحدث إليه حتى انتهى بقوله: “يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك”، “وقلما تكلمت – وأحمد الله – بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي”.
وبالفعل نزلت الآيات تصدق قول الفاروق الحكيم، فيقرر الله دفاعًا صريحًا عن حبيبه المصطفى وجاء الخطاب لعائشة وحفصة -رضي الله عنهما- على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، مبالغة فى المعاتبة، فإن المبالغ فى ذلك يوجه الخطاب إلى من يريد معاتبته مباشرة.
فيحذر من عظم ذنبيهما ويأمرهما بالتوبة فقد مالت قلوبهما وزاغت حين أغضبتا النبي الكريم ولم يكتما سره ولم تحرصا على راحته، وقصرتا في احترام كل تصرف من تصرفاته.
ويتصعد أسلوب التأديب في الآية الكريمة بتحذير عظيم في حال تظاهرتم عليه أي تعاونتم بفرط الغيرة أو الإغضاب فإن النتيجة هي:
حشد من الدفاع المكثف والمؤازرة الكاملة بكتيبة غير مسبوقة تعينه وتساعده مكونة من جلالة الله سبحانه وجبريل وكل الصالحين من المؤمنين، وقيل يعنى أبو بكر وعمر وقيل المقصود الأنبياء، والملائكة كلهم أعوان ومناصرون للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآية ذروة من ذرى التعبير عن محبة الله لرسوله ودفاعه عنه وغيرته عليه، صورة من التكريم الإلهي لخاتم الأنبياء صلاة الله وسلامه عليه تنثر في خلايا من يقرأها هيبة ومهابة وحبورًا.
كيف لا نحبه اللهم صلِّ وسلم عليه ونتبع سنته، وهو من هو عند ربنا الأحد البديع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى