المقالات

ابن القطة السوداء

في أربعينيات القرن التاسع عشر؛ نشر الأديب الدنماركي هانس كريستيان أندرسن روايته “فرخ البط القبيح”، التي تدور أحداثها حول بطة بيضاء جميلة تحتضن عددًا من البيض الذي وضعته، وكانت تهتم برعايته إلى أن فقس البيض فراخًا بيضاء جميلة شديدة الشبه بأمها، في حين تأخرت أكبر بيضة في المجموعة فلم تفقس، الأمر الذي أثار قلق البطة الأم، ولكن بعد فترة بدأت هذه البيضة تتحرك يمينًا وشمالًا؛ حيث كان الفرخ الموجود في داخلها يحاول الخروج من البيضة بصعوبة، وكانت المفاجأة حين خرج من البيضة فرخ أسود كبير الحجم قبيح المنظر، لا يشبه بقية إخوته، ولذلك كان هذا البط الأسود يتعرض لكثير من السخرية والتنمر من إخوته لأنه لا يشبه أحدًا منهم بل حتى بقية الحيوانات كانت لا ترغب في الاقتراب منه؛ مما دفعه إلى الابتعاد عن الجميع وتفضيل حياة العزلة والوحدة وعدم الثقة فيمن حوله.

ولم يكن يدور بخلد الكاتب الدنماركي أندرسون حين كتب روايته أن تلك البطة السوداء سوف تصبح أيقونة عالمية للمنبوذين لها رمزيتها بين الناس في حياتهم اليومية حتى بعد مرور (180) عامًا على كتابتها. فربما لا تكاد ترى تجمعًا بشريًا في أية مجتمع إلا وكانت البطة السوداء إحدى ضحاياه بدءًا من الاسرة كأصغر وحدة في المجتمع مرورًا بالمؤسسات التعليمية والصحية وصولًا إلى المؤسسات التي يعمل بها الإنسان، ويقضي فيها معظم سنوات حياته وحتى تلك المؤسسات التي يتعامل معها كمستفيد من خدماتها. عدد ليس بالقليل من الأسر تُمارس الكثير من السلوكيات السلبية في تعاملها مع الأبناء؛ فمن الثناء والشكر والتقدير، والدلال والضحك واللعب، وحتى الدعاء لأحد الأبناء أو لبعضهم في مقابل النقد السلبي والنهر والشتيمة للبقية وعلى مرأى ومسمع من الجميع، ولا يتوقف الأمر على جانب التعامل المعنوي بل يمتد إلى التفرقة بينهم في الإنفاق ومستوى المعيشة من مصروف وملبس ومأكل وكماليات؛ وفي كل مرة تتجه بوصلة السعادة نحو أبناء البطة البيضاء.

وفي ميدان العمل ينتشر أبناء البطة السوداء في أروقة المؤسسات؛ فمن موظف لم ينل الترقية رغم استحقاقه لها أسوةً بزملائه الأقل منه خبرةً وكفاءةً، إلى موظف ثانٍ لم يتم ترشيحه لمنصب إداري طوال عمره الوظيفي فيما آخرون يتناوبون على رئاسة الوحدات الإدارية كقطع الشطرنج يحركهم المدير دون غيرهم من إدارة إلى أخرى، ومن موظف ثالث لم ينل من الحوافز إلا الفتات؛ بينما الحسابات البنكية لغيره متورمة حد الانفجار!! إلى موظف رابع لم يتم انتدابه في يوم من الأيام بينما موظف آخر حقيبة السفر لا تكاد تفارق يده. أما في المؤسسات ذات الكوادر الوظيفية المتعددة مثل: المؤسسات التعليمية من جامعات ومعاهد وحتى المدارس؛ فلديها الكادر التعليمي وكادر الإداريين، ومثلها المؤسسات الصحية التي لديها كادر طبي وكادر إداري فحدث ولا حرج؛ حيث تتزايد فيها أعداد أبناء البطة السوداء في الجانب الإداري مقارنة بالكادر التعليمي أو الطبي؛ فتكون الأولوية في المزايا والتسهيلات وكافة المميزات والحوافز المادية والمعنوية للمعلم والطبيب، بينما الإداري لا تناله الأولوية إلا في الخصم والعقوبات وكثرة المهام والضغوط؛ ناهيك عن الفوقية في التعامل مع الكادر الإداري والذي يصل حد التنمر. بل إن الأمر يمتد في المؤسسات التعليمية ليقتحم الفصول والقاعات الدراسية؛ وذلك عندما يتجرأ المعلم على تجاوز قواعد السلوك وأخلاقيات العمل؛ فيعطي لنفسه الحق في تصنيف الطلاب إلى أبناء بطة بيضاء وآخرين أبناء بطة سوداء؛ فيغدق على الصنف الأول اهتمامه وكرمه في التعامل وتوزيع الدرجات ويُقتر على البقية.

وأخيرًا وفي ظل دعم القيادة الرشيدة القوي لمبادرات تمكين المرأة وتعزيز دورها القيادي في سوق العمل؛ لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الجنسين، والذي أثبتت من خلاله المرأة السعودية قدرتها على العمل وتحمل المسؤولية وبنجاح كبير في شتى المجالات؛ إلا أن ذلك الأمر لم يمنع من وجود قطة بيضاء وأخرى سوداء، ولا أعتقد أن مصير أبناء القطة السوداء سوف يكون أفضل حظًا من أبناء البطة السوداء.

• عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى