المقالات

الشجرة السعيدة

أناخ راحلته، ومدَّ بصره ليرى سرابًا بعيدًا في وهج الصحراء، لهيبًا محرقًا وأشعةً عموديةً؛ كأنها سهام المرض في جسدٍ يئنُّ من وقع الألم في كل ناحية من جسده الهزيل، حاول أن يجد مكانًا يستظل فيه، فلم يجد سوى شجرة قد اخضرّت في صيفٍ لاهب، فارتحل نحوها يحثُّ الخُطى، ويستجمع القوى، أنهكه ذلك الصيف اللاهب، وسرابُ ظلٍ يسابقه بأملٍ لا وجود له، حتى وصل إلى شجرةٍ قد أظلّت الناس، فوجد أناسًا كُثُر تحت ظلّها يتزاحمون لعلهم يجدون مكانًا يحميهم من هجيرٍ محرق، وصيفٍ قاتلٍ تتنافس فيه المناكب لعلها تجد مكانًا يحتويها، تحت تلك الشجرةٍ الباسقةٍ، لتحتويهم جميعًا، وليستمتعوا بظلها الوارف وأوراقها الخضراء، كشجرةٍ طيبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعها في السماء.
فقال أحدهم: يبدو أنكَ قدِمْتَ من مكانٍ بعيد لم تجد لنفسك وراحلتك ما تستقر به ويهنأ عيشك ويطيب مقامك؟
فنظر إليه، ثم أخذ نفَسًا عميقًا، وكأنه يحمل همومًا قد أثقلته من شدّة حملها، ويريد أن يلقيها عن كاهله، فقال:
إنني قَدِمْتُ من أرضٍ اُقتطعت أشجارها، فأصبحت صحراء جرداء لا تسرّ النظر، ولا يطيب بها المقام، ولا يهنأ بها عيش؛ فقد وجدت كثيرًا من الأشجار قد اُقتطعت أو أُحرقت دون ضمير يردع أو وازعٍ يمنع من الاعتداء على تلك الأشجار وتدميرها، فانعدمت مقومات الحياة في تلك الصحاري.
لقد أصبحت تلك الأشجار تعاني من قسوة الإنسان تجاهها وزيادة الفجوة بينها وبينه، التي اتسعت في تدمير البيئة التي تعيش فيها، فأثّرت على حياة الإنسان؛ فالهواء ملوّث، والرياح عاتية، والتصحّر يتمدد، والنباتات الضارة منتشرة، فكثرت الأمراض، وقلّ الأكسجين في الهواء، حتى كثرت الملوثات البيئية التي بدورها أثّرت على نمو البيئة، وبهجة الحياة وسعادة الإنسان.

فكيف سعدتم بهذه الشجرة الخضراء والدوحة الجميلة التي استوعبتنا جميعًا؟
فقالت الشجرة: ما أقساك أيها الإنسان تجاهي في تدمير البيئة التي أعيش فيها! فلو علمت بفوائدي للأرض والإنسان لحافظت عليَّ، واعتنيت بي؛ لكي تستظل من حرارة الشمس، ولفح الهجير، ويطيب بك المقام تحت أغصاني؛ إذ وجدت من يحميني، فأورقتُ وأثمرت.
أما سمعتم برؤية ٢٠٣٠ التي أعطت لي قيمتي، وحفظَت حقوقي، وسنَّت القوانين من أجلي، واهتمَّت بي؟ فأثمرتُ وعادت لي حياتي، وحافظَتْ على وجودي من خلال مبادرات الرؤية بقيادة واهتمام خادم الحرمين الشريفين، ومتابعة في كل تفاصيلها وأهدافها من سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -يحفظهما الله- الذي تعيش الشجرة عصرها الذهبي لها من خلال مبادرة السعودية الخضراء، فمشروع الرياض الخضراء اهتم بزراعة سبعة ملايين شجرة، ومبادرة نجعلها خضراء بزراعة عشرة ملايين شجرة في مختلف مناطق المملكة، وكذلك مبادرة السعودية الخضراء بزراعة عشرة مليار شجرة خلال العقود القادمة.
فلأهميتي وفائدتي ومكانتي، وأهمية العناية بي؛ جاء إنشاء المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر استشعارًا بأهمية الشجرة والغطاء النباتي، والمحافظة عليهما، ومن أبرز مهامه حمايتي والاهتمام بي من خلال وضع مبادرات وبرامج ومشروعات تنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، ومتابعة تنفيذها، وكذلك تطوير وحماية مناطق الغطاء النباتي بجميع بيئاته، والموارد الوراثية النباتية، والعمل على زيادة نسبة الغطاء النباتي في جميع مناطق التنمية.
فإذا تأملت مسيرتي في المحافظة عليَّ خلال عقدٍ من الزمن ستجد الفارق واضحًا وجليًا، والبون شاسعًا؛ بين شجرةٍ مريضةٍ تعرضت للتدمير وأخرى سليمة جرى حمايتها والمحافظة عليها. إنني أعيش في منتزه جبله الوطني، تلك الفياض الخضراء والروض الجميل، والمراتع الباسمة، الذي أشرفت عليه الإدارة العامة للمتنزهات الوطنية بالمركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر كأحد مراكز التحول الوطني بوزارة البيئة التي كثفت جهودها في حمايتي من أيدي العابثين، فأحاطت به جهود الإدارة العامة للمتنزهات لتنمية الغطاء النباتي والمحافظة عليه وتنميته بأشجاره وشجيراته وجميع نباتاته، وحمايته من الاحتطاب والرعي الجائر كإحاطة السوار بالمعصم، فكانوا العين التي لم تغفل عني؛ إيمانًا بدورهم الوطني والبيئي في بقاء هذا المنتزه وأشجاره في أجمل صوره، فأسرَّتْ مناظري الخضراء وظلالي الباسقة، وأبهجَت كل من قدم إليَّ وتجشَّم عناء السفر من مختلف مناطق وطني المعطاء؛ لتكن تلك الفياض مناظر جاذبة تسرُّ الناظرين من خلال اخضراري وحمايتي.
تلك الجهود أفرحتكم، وأدخلت السرور على نفوسكم، والبهجة في قلوبكم، فالاخضرار لا يفارق نظرك، وأنَّى اتجهت ستجد مسطحاتٍ خضراء وأشجارًا باسقة تسر الناظرين.
الرياح سكنَتْ، والعواصف هدأَتْ؛ لأن الشجرة بقيت سدًّا منيعًا أمام حركتها وصدّها، والأرض زاد اخضرارها؛ حتى تنعم أيها الإنسان بجمال الطبيعة، وتشعر بالأمان والطمأنينة في ظل شجرة وارفة جرى حمايتها ورعايتها من أجل سعادتك، فيتحقق تكامل الحياة وانسجامها بين الشجرة والإنسان في تحقيق عمارة الكون والأرض بالخير.
فاهنؤوا بظلّي، واستمتعوا بوجودي، واستعينوا بخضرتي وثمرتي لتخفيف معاناتكم في تلك الصحاري، فالشجرة ظلُّكم وحياتكم وبقاؤكم. فشكرًا لله، ثم لخادم الحرمين وولي عهده الأمين الذين حافظوا عليَّ من أجلكم، ومن أجل بناء مستقبلٍ آمنٍ لأجيالنا، لنردد جميعًا بكل فخر:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة. دام عزك يا وطن.

د. محمد حارب الشريف

عضو هيئة التدريس بجامعة شقراء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى