المقالات

يوم التأسيس

حب الوطن غريزة فطرية خلقها الله في الإنسان، وما من إنسان إلا ويعتز بوطنه؛ لأنه مهد صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته، وملجأ كهولته، ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده، ومن أجله تضحي بكل غالٍ ونفيس، كانت الجزيرة العربية قد فقدت تلك المنة الكبرى التي أعطاها إياها الإسلام، ونعني بها الوحدة السياسية، ويبدو أنه منذ انتقال كرسي الخلافة بعيدًا عن مكة المكرمة والمدينة المنورة، أهمل الخلفاء من بني أمية وبني العباس أمر شبه الجزيرة العربية، وعلى هذا المنوال سارت بقية الدول الإسلامية وآخرها الدولة العثمانية فعاد الوضع في شبه الجزيرة العربية إلى الجمود الأول ممالك مميتة، وعظمة بائدة، وجرائم شنيعة وفروسية فردية، كل هذا قد أبيد وحوّل إلى حالة شبيهة بالحلم، ولم يعد في الصمت الأصفر الكبير غير الدروب الحزينة للقبائل التي تكافح حتى لا تهلك، حول مواقع الماء والكلاء.
وعادت إلى الجزيرة صورتها القبلية التقليدية التي كانت عليها، وتصاعدت نعرات العصبية الجاهلية إلى مستويات لا تقل عما كانت عليه زمن الجاهلية الأولى فعادت الحروب المستمرة، والمعارك المتصلة، وكانت القوة هي دستور الحياة؛ فكان من حق القوي أن يأكل الضعيف، وعاشت وسط الجزيرة فترة من أشد فترات تاريخها ضعفًا وعُزلة عن العالم.
ولكن خلال منتصف القرن الثاني عشر بدأت تظهر الملامح الرئيسية للوحدة السياسية على يد مؤسس الكيان الإمام محمد بن سعود الشخصية القيادية المتسمة بالحكمة العميقة والحنكة الدقيقة الذي استمر في صراع طويل ومرير مؤملًا تحقيق حلمه في توحيد هذا الكيان الشاسع في جو مليء بالصراعات النجدية والإقليمية والقبائل المعارضة، ولعبت العصبية القبلية أيضًا دورًا هامًا في الصراع، وكرّس نفسه لها هدفًا إلى قيام حكم سعودي يجمع شتات الجزيرة العربية تحت راية واحدة تخللتها تحركات عسكرية ومناورات سياسية ومخاضات مجتمعية تُعد بمثابة فترة تحضير لتأسيس كيان الدرعية الجديد؛ لذلك مرت بمرحلة التحديات وتجاوز الصعوبات، وأطلق عليها السعودية الأولى دامت قرابة 70عامًا.
وصل الحكم فيها غربًا إلى الحجاز وجنوبًا إلى أطراف حضرموت، وشرقًا إلى ساحل عمان وشمالًا إلى نواحي الشام والعراق.
فتاريخنا وتراثنا الحضاري المجيد باعث للروح الوطنية، ومحرك لطاقات المجتمع؛ لأن به وفيه يتمثل الكبرياء الوطني، ففي أعمال الأجداد والآباء العظماء دائمًا أنموذج أسمى، ومثل يحتذي به شباب الوطن؛ لذلك أمن شيخ المؤرخين ونبراس دارة الملك عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بأهمية وخطورة دور التاريخ في توعية المجتمع؛ خاصة في الوقت الراهن والعالم العربي يعيش حالة مخاض ثقافي، وأن على عاتق المؤرخين مهمة عظيمة؛ لأنه لا يمكن الحديث عن نهضة حضارية شاملة بعيدًا عن فهم التاريخ الذي هو ذاكرة الأمة والمنجم الحقيقي لصواب الفعل البشري، وهو مخزون تراثها الثقافي ومناخ عمليات التفكير والبوصلة التي يهتدي بها المجتمع، وأهم عوامل الارتكاز الحضاري، وهو مفتاح كل نهوض وإصلاح ووعينا للتاريخ ليس مجرد ذاكرة انتقائية لأحداث متفرقة وقعت دون علاقة فيما بينها، وإنما الوعي التاريخي وعي جمعي يُمثل نسقًا فكريًا ترتكز عليه التنشئة الاجتماعية، ويبلور الشعور بوحدة الأنا الاجتماعية، ويفرز روح الانتماء، ويعزز الولاء عند اقترانه بالتنمية والبناء.
إن أهداف يوم التأسيس تعكس حرص حكيم العرب شيخ المؤرخين خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين -أيدهما الله- باستحضار سفر التاريخ المضيء، ودعوة الجميع إلى التعرف على مضمون هذه الصفحات، وما تحفل به من أحداث ووقائع تشكل ملحمة بطولية، سطرها أئمة وملوك هذه البلاد الطاهرة، بداية من الدولة السعودية الأولى، مرورًا بالدولة السعودية الثانية، وصولًا إلى المملكة العربية السعودية”، أن هذا الحرص سيجعل من يوم التأسيس ذكرى وطنية سنوية جميلة راسخة في الأذهان، نفخر بها، ويسهم في تعزيز معاني الانتماء والولاء للوطن الغالي والقيادة الرشيدة، ويعكس جانبًا مضيئًا من ماضي المملكة، ويؤكد أن للبلاد تاريخًا قديمًا وعريقًا، حافلًا بالبطولات الإنسانية، والإنجازات الحضارية، التي أثمرت عن وطن شامخ مزدهر، يرتكز على مبادئ قويمة وراسخة، أبرزها إعلاء عبارة التوحيد، بعد حقبة طويلة من الفرقة والشتات التي مزقت البلاد والعباد، ونستلهم منها العبر والدروس، التي نستفيد منها في تحديد ملامح المستقبل.
إن المملكة بالإضافة إلى تشرفها بوجود الحرمين الشريفين فالمملكة العربية السعودية الحصن الحصين والحضن المكين، للعرب والمسلمين احتلت مكانة خاصة في قلوبهم ففيها نبي الأمة -عليه السلام- ومهبط الوحي، ونزول القرآن، ومهد الإيمان، وأرض الإسلام، ومنبع الدين، وقبلة المسلمين، وقلب العالم الاقتصادي كما أنها محور أساسي استراتيجي لموقعها الجغرافي وتاريخها العريق الضارب في خاصرة التاريخ وعمقه ولا تزال آثارها حاضرة ومعالمها تدهش كل من يزورها، وستبقى قصة تأسيس الدولة السعودية شاهدًا على إرادة وعزم قادة مخلصين أرادوا بناء دولة تجمع شتات الجزيرة العربية تحت راية واحدة، تتخذ من القرآن الكريم والسنة المطهرة منهجًا لها، وتسعى لإرساء دعائم الأمن والاستقرار، إن يوم التأسيس سيكون ذكرى لرحلة هذه الدولة في أطوارها الثلاثة، وفرصة للعودة للتاريخ دومًا، وتذكير الجيل الناشئ بهذا الإرث العريق والتحديات والصعاب التي مرت بها المملكة واستطاعت -بحمد الله- أن تصل إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديًا وتنمويًا، ولم تعقها هذه العراقة من أن تضع رؤية طموحة، في كل يوم تحقق تقدمًا نوعيًا في شتى المجالات، وأصبحت إلهامًا لتجارب مماثلة تسعى لمحاكاة إنجازات المملكة ولله الحمد،
وهذا يجعلنا كمواطنين أكثر تفاؤلًا بالمستقبل الواعد المشرق، ونحن نتطلع جميعًا إلى كثافة في مجالات الخير والنماء، والاستقرار والتلاحم الاجتماعي؛ لنصوغ الغد الأطهر والأفضل والأنبل والأمثل..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى