يحق لنا أن نحتفل بذكرى تأسيس هذا الوطن العزيز بكعبته المُشرفة وحرميه الشريفين وترابه المقدس.. ويحق لنا أن نفخر بأننا القبلة والقدوة والديار العزيزة على كل مسلم، وإننا الأمة التي اختارها الله -عز وجل- لتكون حارسةً على أقدس مقدساته، وخدمة الحرمين الشريفين والزوار والمعتمرين على مدار العام وكل عام، وأيضًا خدمة قضايا الإسلام والمسلمين في كافة أرجاء المعمورة، ويحق لنا أن نُباهي بأننا أمة وسطية، أسبغ الله عليها من فضله ونعمه الكثيرة حتى أصبح الأمن والرخاء والاستقرار سمتها البارزة التي ميزتها عن غيرها من الأمم.
اليوم ونحن نحتفل بذكرى التأسيس التي تعتبر ذكرى عزيزة وغالية على كل مواطن ومواطنة، لما لها من أثر بالغ في تعزيز الهوية وترسيخ الانتماء، فإننا إنما نؤكد على أن جذورنا تضرب في هذه الأرض الطاهرة عبر ثلاثة قرون، ظلت فيها بلادنا رمزًا للعزة والشموخ والعلا، فكان الانتصار شيمتها الرئيسة، والوحدة خصيصتها الكبرى، والفخار سمتها البارزة، وكان الترابط المتين بين القيادة والشعب أبرز ما ميزها عبر تلك القرون الثلاثة؛ حيث جعلت منها تلك الخصائص أمة متفردة وشعبًا فريدًا ووطنًا متميزًا ليس كغيره من الأوطان، وهو ما يؤكده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بكلماته: “نعتز بذكرى تأسيس هذه الدولة المباركة في العام 1139هـ (1727م)، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، أرست ركائز السلم والاستقرار وتحقيق العدل. وإن احتفاءنا بهذه الذكرى، هو احتفاء بتاريخ دولة وتلاحم شعب، والصمود أمام كل التحديات، والتطلع للمستقبل، والحمد لله على كل النعم”.
إن ذكرى تأسيس الإمام محمد بن سعود قبل ثلاثة قرون، تحديدًا في منتصف عام 1139هـ (1727م) للدولة السعودية الأولى التي استمرت إلى عام 1233هـ (1818م)، وعاصمتها الدرعية ودستورها القرآن الكريم وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يجعلنا نؤكد على أن هذه الدولة أرست دعائم الوحدة والأمن في الجزيرة العربية، بعد قرون من التشتت والفرقة وعدم الاستقرار، وصمدت أمام محاولات القضاء عليها، إذ لم يمضِ سوى سبع سنوات على انتهائها حتى تمكن الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود عام 1240هـ (1824م) من استعادتها وتأسيس الدولة السعودية الثانية التي استمرت إلى عام 1309هـ (1891م). وبعد انتهائها بعشر سنوات، قيَّض الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود عام 1319هـ (1902م) ليؤسس الدولة السعودية الثالثة ويوحدها في 17 جمادى الأولى 1351هـ / 23 سبتمبر 19 32م باسم المملكة العربية السعودية، وسار أبناؤه الملوك من بعده على نهجه في تعزيز بناء هذه الدولة ووحدتها ونهوضها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من تلك المكانة التي وضعتها ضمن أفضل عشرين اقتصاد في العالم، ومن دول العالم الأكثر تقدمًا ورقيًا وتميزًا.
وعندما نحتفي بهذه الذكرى العزيزة، فلا بد وأن نشير إلى السمات والقواسم المشتركة التي جمعت بينها وبين الدولة السعودية في طورها الثالث (المملكة العربية السعودية)، والتي يأتي في مقدمتها استتباب الأمن، فقد أولوا الجانب الأمني أهمية قصوى، وتكللت جهودهم في هذا المجال بالنجاح الكبير حتى ساد البلاد أمنًا لم تشهد له مثيلًا إلا في فترة فجر الحكم الإسلامي. كذلك أدى انتشار العدل إلى شعور الرعية بالطمأنينة والارتياح، واختص آل سعود منذ عهد الدولة السعودية الأولى بصفة هامة ميزت حكمهم، وكانت إحدى ركائز هذا الحكم، وهي الشورى، وأيضًا نظام البيعة الذي جعل الحكم ينتقل بسلاسة ويسر، وكان علم الدولتين السعودية الأولى (والثانية) والثالثة واحدًا، ودستورهم واحدًا (القرآن الكريم والسنة المشرفة). وقد منّ الله -عز وجل- على آل سعود بنعم كثيرة منها محبة وتأييد الشعب لهم، فكان لذلك أثره في توطيد دعائم الحكم واستقرار أمور الدولة، وقد عاش المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود تسعة وسبعين عامًا، وكانت مدة حكمه حوالى أربعين سنة. ولعل من أسباب رسوخ الكيان وتماسك البنيان استفادة الملك عبد العزيز من العثرات التي وقعت فيها الدولتان السعوديتان الأولى والثانية، فلم يسعَ – يرحمه الله – في التوسع خارج حدود الوطن، كذلك استفاد جلالته من التقصير الذي وقعت فيه الدولة السعودية الأولى، فلم يضم إليها الحجاز إلا بعد زوال الدولة العثمانية، واختار الملك عبد العزيز موقفًا لا يضعه في موقع الخصم لهذه الدولة، عندما رفض الإسهام في الإجهاز عليها، وفضل اتخاذ لموقف حيادي أثناء الحرب، حتى إذا واجهت الدولة العثمانية مصيرها المحتوم، لم يوجه أحد اللوم له وهو يضم الحجاز إلى الوطن الأم. كما استفاد الملك عبد العزيز من السهو الذي وقعت فيه الدولة السعودية الثانية وأدى إلى انهيارها، وذلك بوضع آلية في الحكم تتضمن من بين بنودها توطين البدو(مجتمع الهجر) الذي يعتبر شرطًا أساسيًا في تعزيز مفهوم المواطنة ومعنى الانتماء.
لقد استطاعت المملكة عبر مسيرتها النهضوية والتنموية المباركة، وتاريخها الحافل بالإنجازات والانتصارات أن تحقق حلم قادتها العظام وطموحات شعبها العظيم اللذين صنعا معًا بالعمل الدؤوب والصبر والمثابرة أمجاد هذا الوطن الجميل الذي ننعم الآن تحت ظله بالأمن والاستقرار والرخاء.
قصة بناء الوطن وإعلاء رايته، وتتبع انتصاراته وإنجازاته عبر ثلاثة قرون، هي ملحمة تستحق الإشادة والفخر والاعتزاز؛ خاصة ونحن نحتفي بهذه المناسبة العزيزة علينا جميعًا: “يوم بدينا”، لما تنطوي عليه من معجزات تحققت بفضل الله وتوفيقه ثم بسواعد أبناء الوطن الذي ظل سلاحهم الأمضى سلاح الإيمان والإرادة والعزيمة والإصرار، ومن خلال التلاحم بين القيادة والمواطن في ظل راية التوحيد.