من العسير حقًا إدراك ماهية السيطرة على فساد الذمم الوظيفية، وتمحيص سلامة النوايا بين حنايا الصدور وسويداء القلوب، ودون ذلك خرط القتاد إلا بتوفيق الله تعالى ثم الاستفادة من تجارب الأمم الناهضة التي قلمت أظفار الفساد وقضت على رموزه، وقطعت دابره، وقد نجح الغرب فعلًا في تجاوز معضلات الفساد عبر مخاض طويل من التجارب العملية، والنظريات الرقابية والإدارية الرائدة، والأخذ بها بصرامة وحزم، ومنها:
-التثبت من البراءة المالية للموظفين وخاصة المتنفذين.
-العرض على جهاز الكذب.
-الرقابة والمحاسبة الدائمة؛ وخاصة عند ظهور خلل واضطراب في إدارة تلك المؤسسات أو فشل في المخرجات والنتائج.
-التربية الوطنية الجادة، التي تجعل من الوطن والدولة جزءًا من الوجدان والمشاعر، وتُعنى بإنتاج وصناعة المواطن الصالح.
-العقوبات القانونية الصارمة التي لا ينجو منها أي فاسد أو مرتشٍ أو لص كائنًا من كان مهما كانت مكانته، وحجمه، ووزنه المالي، والعائلي، ونفوذه الإداري.
فتلك المعطيات ساقت الغرب على تشييد حضارة قوية وجادة وناهضة ومتطورة، ولا عبرة بأقوال الطاعنين الذين يبشرون بسقوط الحضارة الغربية قريبًا، وهم واهمون جدًا، ولا أعني بذلك الخلود المطلق لهذه الحضارة يقول تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)) (الرحمن: 26،27)، ولكن سنن الله الكونية والقدرية والشرعية لا تحابي أحدًا كائنًا من كان، فرغم فساد الغرب العريض في كل المجالات الأخلاقية.. إلخ، إلا أن تمسكهم ببعض أدوات الإدارة القوية، والرقابة والمحاسبة، وتشجيع ذوي القدرات والتميز، ودعم البحث العلمي، وجندلة الفاسدين تحت نير العقوبات القوية، وحرية الصحافة المسؤولة التي تطارد الفساد وتفضح رموزه أينما كان ولو بأثر رجعي، ساعد ذلك كله على محاصرة الفساد، وأنتج حضارة جادة ومتطورة تقبل النقد والمراجعة والتقويم، ولا يعني ذلك الشعور بالانهزامية أو الدعوة إلى الذوبان أو الإعجاب الأحمق بالحضارة الغربية بإمعية وأسر وتبعية عمياء، بقدر ما هو الاقتباس الراشد والانتقائي من هذه الحضارة الغربية، والدعوة في ذات الوقت إلى الاعتزاز بالبديل الحضاري الإسلامي الذي كان يومًا من الدهر حقيقة تاريخية وواقعية عبر منظومة من النظريات التطبيقية الاجتهادية، والتي غطت جميع المجالات الحضارية وإعادتها جذعة بلغة القرأن الكريم (اللغة العربية) الذي حمل أوروبا على دراسة اللغة العربية وتدريسها في جامعاتهم ومعاهدهم وإرسال أبنائهم إلى الحواضر الإسلامية لدراستها مقرونة بمخرجاتها الحضارية، وذلك باعتراف علمائهم ومؤرخيهم، واتسمت حضارة الإسلام وثقافته النابعة بالسبق الإداري الرقابي، قبل أن تعرفها الأمم السابقة، فمنذ العهد النبوي الشريف، تطالعنا السنة النبوية بمراقبة العمال كما ورد في حديث ابن اللتبية ونصه عن أبي حميد الساعدي (رضي الله عنه) قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الإزد يقال له: ابن اللُتْبيّة على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم، وهذا أُهدي إليَّ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمدالله وأثنى عليه ثم قال: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاّني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت إليَّ، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا، والله لئن يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله تعالى يحمله بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تعير، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه فقال: اللهم قد بلغت)
واستسقى الخلفاء الراشدون النهج النبوي الرقابي سبيلًا في اختيار الولاة ومحاسبتهم ابتداء باختيار الولاة الزهاد الذي يدفعون إلى الرئاسة دفعًا، ولا يتطلعون إليها بالمطلق لا بل والتفتيش عليهم وعزلهم عند أي بادرة وشكوى من الرعية، وهذه خصيصة نادرة لا نظير لها في الحضارات البشرية بلا استثناء؛ إذ من المكروه أن يُولى المناصب في الإسلام من يستشرفها ويتطلع ويتشوق إليها، مما نراه اليوم من تكالب وتسابق بكل وسيلة للوصول إلى الكراسي المخملية، سواء بالانقلابات العسكرية أو الحملات الإعلامية أو الانتخابات التنافسية التي يؤججها المال الحرام والدعايات الزائفة، أو بالتملق والنفاق والتزلف والبحث عن الأضواء وطلب الشفاعة، بالتعرف على أصحاب الحضوة عند السلطان، لعله يصيب بسببه رئاسة ومغنمًا وشفاعة وتزكية، ومن الخطأ أن يكون تسنم المناصب وتوليها بالترشيح والتوصية دون تمحيص واختبار ومقابلة وفحص، فالوظيفة العمومية نوع من الابتلاء، حملت الكثيرين من الأئمة على رفضها و آثر السجن والتعذيب عليها، وهذا مما لا نظير في التاريخ كله (والشاذ له لا حكم)؛ فعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة (رضي الله عنه) قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسأل الإمارة فإنك إن أُعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها) والحديث متفق على صحته.
وللحديث بقية…
0