المقالات

حفلات الطائف والفن الغنائي ( 1390هـ- 1970م)

(الحلقة الأولى):
اشتهرت مدينة الطائف منذ بداية الثمانينيات الهجرية بأنها مُلتقى الفنانين، وبالذات في فصل الصيف، وعندما قدِمت إليها عام 1390 هجرية لإكمال دراستي بمعهد المعلمين .. كُنا نحن الطلاب وقت فراغنا نطوف شوارعها مشيًا على الأقدام في الحي الذي نسكنه أو الأحياء المجاورة، ونُلاحظ أحيانًا وجود ترتيبات لإقامة مسرح بدائي من خشب العمائر، فنعرف أن هنا مناسبة فرح وزواج .. وستُقام حفلة غنائية. في موقع الحفل يُغلق الشارع بـ(تيزار)، ويفرش السجاد على الشارع، ويُجهز عقدًا كهربائيًا من المصابيح المتوهجة… في جانب آخر نُشاهد قدور الطبخ تحتها أكوام من الحطب، وبرفقة عدد من الزملاء حضرنا إحدى تلك الحفلات بعد انتهاء عشاء الضيوف… كانت من الليالي الجميلة مشاهدة حفلة غنائية لأول مرة يظهر لنا مطربون لا نعرف أسماءهم، مع فرقة موسيقية … الجمهور يتجاوب ويصفق في لحظات خاصة مع المطرب عندما يصدح بالموال، أو يصل إلى كلمات من الأغنية تلهب مشاعر السامعين ومنها:

ذهب الهوى بمخيلتي وشبابي
فأقمت بيـن مــلامـــــة وعتــابِ

هي نظرة كانت حبائل خدعة
ملكت عليّ بديهتي وصوابي

ولون آخر يقول:

بلغوهـا إذا أتيتـم حمــاها
أنني مِتُّ في الغرام فداها

وأذكرونـي لهــا بكـل جميـل
فعساها تبكي عليَّ عساها

واصحبوها لتُربتي فعظامي
تشتهي أن تدوسها قدماها

عند سماع الموال تُطلق الجماهير بأصوات عالٍية عبارات (شعبية)، وهم يسبحون في خيال الكلمات المغنَّاة، ويهزون رؤوسهم: (أيوه .. ياخويه .. طيَّب .. طيَّب .. يا سلام .. ياهوه .. يا سلام). ونحن القرويين واقفون صامدون، نُشاهد ونسْبح معهم في الخيال بإعجاب وصمت؛ لأننا نستحي أن نعبّر عن مشاعرنا مثلهم بالتصفيق، ولا نُجيد مهارة التجاوب مع المطرب بالصياح أو التعليق.

لفت نظري في هذا التجمع نزول أحد البارزين من (المنصّة) ويُلِح على شاب – معروف لديهم مسبقًا – يطلبون منه القدوم إلى المسرح (هيّا ياواد .. قُوم .. والله تقُوم) يشُدّ فيه والشاب يمانع، والجمهور يُشجعه على المشاركة (قُوم .. ياواد .. قُوم) .. أخيرًا يصل للمسرح بعد التسحيب من بين الجماهير؛ فإذا به حَسن الصوت، يغني بما يشبه المحترفين، وكنا نستغرب من تلك الممانعة .. في ظننا أنه لا يجيد الغناء. الملفت للنظر أننا نشاهد كثيرًا من الشباب في حفلات مماثلة يجيدون العزف والغناء، ومهما كانت جولة الاستمتاع بهيجة، ولا يوجد من يعترض على الحفلات الغنائية، إلا أنه يتراءى لنا نحن الطلاب تحت التأهيل كمعلمين بأن الطرب والمطربين لهم مجالسهم الخاصة، ونحن في مثل هذه الحالة نشاهد ونستمتع ونمضي في سبيلنا.

بالنسبة للنساء وأفراح الأعراس؛ لا يوجد قصور أفراح بل تُعقد لهن المناسبات في أسطح المنازل، بعد عمل حواجز تضمن خصوصية الحفل، وفي أحيان نادرة تُحيي الحفل مغنيات من قبل أصحاب الحفل الموسرين.

ومع هدوء ليالي مدينة الطائف تسري نسمات العليل الطائفية بتلك النغمات ليلًا من أسطح المنازل، والطلاب القادمون من المناطق القروية إلى الطائف المتحضرة، وهم في أوج سن المراهقة، وممن يغلب عليهم طابع البؤس والحرمان، بعيدًا عن أُسرهم وذويهم؛ تُلهب مشاعرهم خيال الكلمات .. وصدى النغمات … تتلقاها المسامع بصورة عفوية عبر الأثير .. تصل إلى عقر الدار في عزبة كئيبة، لم تتحرك قدم للبحث عنها، ولا سبيل لصدها، ولا العرف السائد يراها منكرًا، أولئك الشباب منهم من انتهى حلمه بانتظار ما يُخبئه له الأهل لعروس في قريته – ربما – من غير مشاورته، وهناك من يُمنِّي نفسه بِليْلة مماثلة لما يصل إلى مسمعه من أطياف وأنغام أسطح منازل الطائف .. لا يزال صداها حاضرًا .. وقد قال قائلها:

بدمــع العين والله … روينا زهـر فله
ومنها مــا جنينا … سوى أشوق ذُلّه
سهـرنا هاللـيالي … لقينا المُـرّ حالي
رضينا والرضا بالحب … واجب فوق واجب

وحصل أن منزلًا يسكنه عدد من الطلاب المجاورين لعزبتنا به سطح واسع، وطلب منهم صاحب المنزل إخلاءه في يوم محدد لوجود حفلة زواج ستُقام للنساء …. (للحديث بقية).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى