استكمالًا لما ورد في الحلقة السابقة عن (حفلات الطائف والفن الغنائي) في بداية التسعينيات الهجرية …كان في الحي عدد من الطلاب المجاورين لعزبتنا يسكنون منزلًا به سطح واسع، وطلب منهم صاحب المنزل إخلاءه في يوم مُحدد لوجود حفلة زواج ستُقام للنساء، وعملوا مسرحًا مبسطًا استعدادًا لحفل نسائي، ربما لن يخلو من غناء، وقد زرتهم مصادفةً ذات يوم؛ فإذا بأحد أعضاء (العزبة) البائسة ممن لديه هواية في الرسم منهمك في رسم لوحة زيتية فنية على أحد جوانب خزان الماء المصنوع من الصفيح الدائري في السطح، كتبرع منه للحفل النسائي؛ يبث من خلال لوحته ما يختلج في قلبه من خيال وآمال وتعقيدات، ويتراءى لي أنه أرهق نفسه بفكرة يغلب عليها السذاجة، عندما رسم عروسًا بيضاء (ببراطم) حمراء وشعر مسرّح. لا أعلم ماذا حصل له بعدها، لكن من المؤكد أن صاحبنا (أبو صلوح) لن يسلم من توبيخ وتأنيب مالك المنزل … لايزال (أبوصلوح) بفضل المولى حيًا يُرزق .. يمتلك الروح الفنية المرحة مع اعتلال في صحته … له مني خالص الدعاء بأن ينعم عليه الخالق بالشفاء، ولا يمنع أن يصله دعاء القراء الكرام.
وفي بداية وصولي إلى الطائف عام 1390 هجرية 1970 م قابلت زميلًا في الدراسة منذ زمن بعيد أيام المرحلة المتوسطة: (مطر بن صالح)، وهو مقيم مع أسرته بمدينة الطائف، ودعاني إلى حفل زواج لأحد أقاربه أقيم فوق سطح منزل – بجوار منشية بافيل – كانت بالنسبة لي ليلة مختلفة عما كنت عليه بالدمام، التي تخلو من أي مظاهر عامة للأفراح، وتختلف عما نُشاهده أحيانًا في (الديرة) من رقصات وعرضات عندما تُحمل الخناجر والسيوف والعصا، بينما في مدينة الطائف استجد عليَّ الموقف بأن أحضر صاحب الحفل شابًا يمنيًا يُجيد العزف على العود، أمام جمع من الحاضرين المتكئين على جدار سطح مفروش بالسجاد، في هدوء ونظام للجلسة والمشاهدة … ثم غنى المغني مقاطع جميلة بلحنٍ يمني، وبكلمات معبرة، أسمعها لأول مرة؛ وكأنها مسلسل من الهوى والخيال تقول أبياتها:
يوم الأحد في طريقي ….بالصدف قابلت واحد
غصب عني صرت بعده …. صرت ما هميت واحد
قلت له من غير ما أشعر …. عاد شيء رحمه لواحد
التفت نحـــــوي وقلّــي …. روح يا مجنـــون واحد
روح شوف أهلي عددهم …. با يقع ألفين واحد
قلت لـــه قصر كـلامـك …. لا تزيّد حرف واحد
حتـى لــو تعداد أهلك …. با يقع ألفين واحد
أنت يا فتــــــان مثلك …. بالحلا ما شفت واحد
بعد الحفلة الغنائية والكلمات المثيرة في اختيار حروفها؛ أمسينا على موعد مع العشاء الطائفي الذي يحمل بصمة فنية أخرى تُضاف إلى جماليات الطائف والنغم الغنائي. كل شخصين متقابلين يشتركان في صحن عشاء واحد بيضاوي الشكل، يُسمى عند أهل الطائف (سرويس)، مع (التّبع) ويقصد به (الطرمبة والسمبوسة والسلطات)، أما مسألة التذوق والحلا، فهي بلا شك غير قابلة للنقاش، خاصة لمن كان قادمًا من (عزبة) بائسة بينها وبين التغذية والرفاهية تاريخ مُظلم. هكذا اتضح لي أن الطائف إلى جانب تميزها الفني، لها تميُّزٌ واضح في فنون الطبخ، وهناك أسرٌ معروفة ومُشتهرة تتوارث المهنة أغلبها في حي السليمانية والعزيزية والعقيق… أمثال: صدقة قاندية والهبل وسعيد يماني … وغيرهم.
عندما يجد شاب مثل هذه الوقفات الفنية الطائفية صيفًا في الهواء الطلق مع جمع من الضيوف والأصدقاء، وما يُرافق الجلسة من مظاهر للبهجة والمحبة والكرم، فهي بلا شك تزيد من رصيد الإعجاب بالطائف، وفي الوقت نفسه أقارنها بأيام قضيتها في الدمام. كانت جافة إلى حدٍ كبير، حيث تخلو الدمام – آنذاك – من أي ملامح للأنس والتواصل الاجتماعي مقارنةً بما وجدناه في الطائف.
حفلات الطائف عند قدومي إليها لا تقتصر على انتشار الفن الغنائي، بل هناك حفلات ….. (للحديث بقية)