المقالات

الحفلات والفن الغنائي في الطائف (3 – 5) 1390هـ- 1970م

هذه الحلقة (الثالثة) في سياق مشاهداتي للحفلات والفنون الغنائية في الطائف عندما قدمت إليها عام 1390 هجرية انتقالًا من مدينة الدمام لاستكمال الدراسة في معهد المعلمين؛ حيث كنَّا نحن الطلاب نتجول في الأحياء وقت فراغنا مشيًّا على الأقدام؛ فنشاهد احتفالات ومناسبات، وهي لا تقتصر على انتشار الفن الغنائي المعروف، بل هناك العرضات وما يُصاحبها من رقصات شعبية، شاهدت أولى تلك الحفلات في الشهداء الجنوبية بجوار مسجد (بن سند)، وعرفت من الحضور أن الحفل الشعبي هذا يعود لقبيلة (بني سعد) من ضواحي الطائف. في الحفل يقف صفان متقابلان يصفقان بالأيدي، ويتبارى بينهما شابان، كل منهما يمسك بيديه عصا قصيرة في حركة نصف دائرية على إيقاع الطبل، والمشاركون والمتفرجون لا يتجاوزون العشرات. لفت انتباهي في الحفل طريقة الوقوف والأداء المنظم بصورة أفضل من الرقصات الجنوبية، وهم متفاعلون ومعجبون بالأداء الجماعي. إلا أنني انصرفت عن متابعة المشهد؛ لأن الصوت ولهجة الإلقاء غريبة على مسامعي، ولم أجد لها ارتياحًا، فهي لا تتطابق مع (الشِّفْره) الخاصة لدي، إذا قارنتها بأصوات شعراء غامد وزهران، أمثال “ابن مصلح” و”الغويد” و”خرصان” و”أبو جعيدي”؛ ممن كان لهم – رحمهم الله – صولات وجولات لا تخلو من حماس وجمال الصوت، يسرد أحدهم عشرين بيتًا، ويرد عليه الآخر بمثلها والقافية نفسها أمام الجماهير المحتشدة في حفلات الطائف وحفلات أخرى بمختلف مناطق المملكة.

في فترة أخرى حضرنا حفل زواج لأحد أبناء ووجهاء قبيلة غامد ”سعد بن طاوي” -رحمه الله-، وهو ممن استقر في مدينة الطائف منذ زمن بعيد، وعمل بالتجارة والمقاولات وله مبادرات اجتماعية وحضور قوي لدى مجتمع الطائف. تميّز الحفل بحضور كبار الشعراء يتقدمهم الشاعر “أبو جعيدي” وحضور حشد من المشاركين والمتفرجين. الحفل مشابه لما يُقام عادة في مثل هذه المناسبات، لكن الملفت للنظر؛ أن صاحب الحفل قدّم مبلغ ألفي ريال للشاعر لـ”أبي جعيدي” لم يسبق أن قُدّم لشاعر مثله، ذلك المبلغ يكفي لشراء أرض في الحي – بمقاييس تلك الفترة – في بداية التسعينيات الهجرية. ولعل ذلك يوضح مكانة صاحب الحفل بين ذويه ومعارفه ويعبر عن مدى سعادته ورضاه عما يقدمه الشعراء من قصائد رائعة، وبما تتضمن من افتخار بالوطن والملك والقبيلة، ومنظومات أخرى من المدح لصاحب الحفل تتناسب مع مكانته المادية والاجتماعية.

ومن المتعارف عليه أن شاعر العرضة يستلم هديته من صاحب الحفلة في منتصف الوقت، وما إن يستلم المبلغ حتى يبدأ الخيال والإبداع يتجدد بصورة أقوى مما يحفز الجماهير المشاركة لمزيد من الحماس، بالقفز إلى أعلى والضرب بأرجلهم على الأرض بقوة وبشكل جماعي … أصواتهم تعلو وتشق عنان السماء بما يُمليه عليهم الشاعر من أبيات المدح والوصف الخيالي المبالغ فيه، وهم يحملون السيوف والعصا؛ كأنهم مقدمون على حرب ومعركة حقيقية.

تلك الحفلات لا تخلو من جوانب اجتماعية جميلة، فهي مجال رحب للترويح عن النفس، ومن خلالها يلتقي الأقارب والأصدقاء، ويعبرون بالرقصات والأشعار الحماسية عن الولاء للوطن، وعن فرحتهم ومؤازرتهم للعريس وأسرته.

شاهدْتُ حفلة أخرى لقبيلة (بني شِهر) …. (للحديث بقية في حلقة قادمة، إن شاء الله)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى