نجحت الدبلوماسية الأمريكية في أن يتوقف بوتين في استخدام النووي التكتيكي، كما نجحوا في أن تقف الصين على الحياد في الحرب الأوكرانية، لأن لأمريكا مصالح أكثر من مكان من مصالحها في أوكرانيا، وتعتبر هجوم الصين على تايوان أهم لأمريكا من أوكرانيا، كما أن هجوم حماس على إسرائيل، ستصبح اليد الطولى لإيران في الشرق الأوسط، ما يعني أن إسرائيل أكثر أهمية لأمريكا من أوكرانيا، ما يفرض على أمريكا أنها لن تواصل دعم أوكرانيا بنفس الوتيرة، وهي لديها اهتمام بالصين، وفي نفس الوقت فقط تود أمريكا إضعاف روسيا وليس هزيمتها، في ظل خلاف أوروبي، مما يجعل اهتمام أمريكا بأوكرانيا قليل الأهمية؛ لأن هناك مشاكل في العالم أهم للولايات المتحدة، البعض يعتبر أن إيران وروسيا نجحتا بإشغال أمريكا بالملف الفلسطيني الإسرائيلي، خصوصًا بعدما فشلت أوكرانيا في استنزاف روسيا، وكذلك تأقلمت روسيا مع العقوبات الدولية، بل فشلت.
ففي الذكرى الثانية لهذه الحرب في فبراير 2024 بين روسيا وأوكرانيا، حرصت التقارير والصحف البريطانية بشكل خاص تذكير دول الغرب على مواصلة دعم أوكرانيا حتى لا تهزم ويصل التهديد الروسي إلى دول أخرى، فيما يسود في واشنطن إحباط من الدول الأوروبية بسبب فشل أوكرانيا في الهجوم المضاد، يُعارض زعماء المعارضة في فرنسا إرسال قوات فرنسية إلى أوكراينا، ووصف فيليبو ماكرون بالمجنون، ودعا البرلمان إلى عرقلة قرار يحتمل بإرسال قوات إذا لزم الأمر، كما أدان ميلينشون زعيم حزب فرنسا الاشتراكية تصريحات ماكرون ووصف الحرب ضد روسيا بالجنون والتصعيد اللفظي الحالي غير مسؤول، كذلك ألمانيا يُطالبها الاتحاد الأوروبي بإرسال صواريخ تاوروس لكنها ترفض، فمن باب أولى تُمارس أمريكا سياسة واقعية في الساس، وأن مشكلتهم مع روسيا مسؤولية أوروبية وليست أمريكية.
خصوصًا بعد فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فهو ينمو أكثر من أي اقتصاد غربي آخر، وصلت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي عام 2020 نحو 39 في المائة، ومن النفط 23 في المائة و46 في المائة من الفحم، رغم العقوبات ما يزال يصل الغاز والنفط الروسي يصل إلى أوروبا عبر مصافي نفط في دول أخرى مثل: الصين والهند، حتى أصبح دخل روسيا 605 مليار دولار منذ شهر فبراير 2022 منذ اجتياح القوات الروسية أوكرانيا 188 مليار دولار مشتريات أوروبا.
ما يعني أنهم أخطأوا حساباتهم، خصوصًا وأن أمريكا كانت تخشى ارتفاع أسعار النفط بعدما رفضت السعودية المشاركة في رفع الإنتاج لخفض الأسعار وخفض مداخيل روسيا لكنه سيؤثر أكثر على الاقتصاد السعودية وليس للسعودية ناقة ولا جمل في هذه الحرب التي هي صراع بين روسيا والغرب، بعدما تعهد الغرب لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بعدم توسع الناتو نحو روسيا، لكنه لم يلتزم بذلك، وبدأ يتوسع نحو الشرق خصوصًا بعدما الثورات الملونة التي ضربت جورجيا وأوكرانيا، وعزمت جورجيا وأوكرانيا على الانضمام للناتو، دخلت روسيا إلى جورجيا عام 2007 ودعمت استقلال أبخازيا وأوسيتا، وبدأ بوتين يحذر الغرب في مؤتمر ميونخ للأمن من تمدد الناتو تجاه روسيا، لكنه لم يكترث ولم يستجب، عندها أقدم بوتين على ضم شبه جزيرة القرم في مارس 2014 ومدينة سيفاستوبول ما يُسمى منطقة القرم الاتحادية؛ حيث تحرص روسيا للوصول إلى البحر المتوسط المياه الدافئة والسيطرة على مضيقي البسفور والدردنيل من أجل الهيمنة على البحر الأسود، ومرور السفن الروسية بانسيابية دون عراقيل عبر مضيقي البسفور والدردنيل، وهي الجزيرة التي كان الصراع المرير عليها بين روسيا والدولة العثمانية ما بين القرن السادس عشر والعشرين، انتصر الروس في معظمها إلى أن هزمت روسيا مع الدولة العثمانية بدعم بريطاني وفرنسي عام 1856 وتم توقيع اتفاقية باريس، لم تتوقف روسيا عند هذا الحد بل وصلت إلى سوريا عام 2015 وأقامت لها قاعدتين عسكريتين في طرطوس وحميميم الجوية.
تبنى بوتين نظرية الحرب بدلًا من نظرية الردع سماها بعملية عسكرية خاصة، ورغم أن هناك كتاب ألكسندر بوغين 2004 تحت اسم أسس الجيوبولتيكا يعتبر أن كل أوروبا الشرقية تتبع لروسيا، وكل آسيا شرقًا تتبع روسيا باعتباره مشروعًا روسيًا، لكن البعض يرى أن هذه الحرب تشبه ضم هتلر النمسا وسط دعم هائل من النمساويين، وكذلك ضم الألمان في تشيكوسلوفاكيا، لم يواجه هتلر بعد هذا الضم مواجهة من بقية الدول الكبرى في أوروبا وهو ما تنبه له بوتين كذلك لم يتم مواجهة هتلر إلا بعدما اتجه إلى ضم بولندا، بل نجد أن بوتين يدعي أنه يود القضاء على النازيين في أوكرانيا لكنه لا يعتبر زيلنسكي من النازيين، ويمكن التفاوض معه وهو مقبول كشريك، ويمكن منح الدومباس الحكم الذاتي في ظل إدارة مشتركة مؤلفة من شخصيات مؤلفة من موسكو وكييف يشبه النظام في إيرلندا الشمالية.
لكن هناك تواجد عسكري لأمريكا في استونيا وسلوفاكيا، وأصبح بحر البلطيق بعد انضمام السويد وبولندا بحرًا للناتو، كما نجد أن الصراع بين روسيا وتركيا على أذربيجان وأرمينيا، استثمر أردوغان الحرب في أوكرانيا واستطاع في ظل الصمت الروسي الأمريكي في دعم أرمينيا في تحرير قرة باغ من أجل الحصول على الطاقة من أذربيجان الذي ينافس روسيا؛ لأن أردوغان يعتبره أولوية استراتيجية وهو إقليم متنازع عليه منذ عقود، بعد تدخل روسيا ووقف الحرب بين أذربيجان بدعم أردوغان وأرمينيا عام 2020 بدعم أمريكا وفرنسا.
يبدو إذًا إن الظروف الدولية جاهزة لحل هذه الأزمة، فاستقبال سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لرئيس مجلس الدوما للجمعية الفيدرالية في روسيا الاتحادية السيد فياتشيسلاف فولدين، باعتبار أن السعودية وسيط نزيه بين روسيا وأوكرانيا، وسبق أن توسطت في تبادل أسرى بين الجانبين، تأتي زيارة زيلنسكي للرياض وتصريح زيلنسكي باقتراب أوكرانيا من قمة السلام الأولى بدعم سعودي نشط، وأعلن الرئيس الأوكراني فور وصوله إلى الرياض أن مناقشاته مع ولي العهد ستركز على صيغة السلام وكيفية تنفيذها، تأتي امتدادًا للقمة التي استضافتها مدينة جدة يومي 5و6 أغسطس 2023 اجتماعًا على مستوى مستشاري الأمن القومي لنحو 40 دولة، وذلك استكمالًا لنقاشات قمة السلام في أوكرانيا التي استضافتها كوبنهاغن الدنماركية في يونيو 2023، ومنذ أن شارك زلينسكي في القمة العربية في مايو 2023 عندما وصل جدة على متن طائرة فرنسية من بولندا كان من أولويات الزيارة هي مناقشة صيغة للسلام، حيث باتت السعودية نتيجة حيادها ودورها الفعال نجحت في تبادل الأسرى بين الجانبين، في أن تكون دولة مرشحة لتحقيق السلام بين أوكرانيا وروسيا.
– أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى سابقًا