المقالات

حفلات الطائف والفن الغنائي ( 5- 5 ) 
1390هـ/ 1970م

اليوم الرابع والعشرون من شهر شعبان وقد اقترب الشهر الفضيل ، لذا أجد نفسي استحث الخطى لكي أنهي هذه الحلقات ، فلكل مقام مقال .. والقادم أجمل بمشيئة الله تعالى في هذه الصحيفة الرائدة .

ففي فترة لاحقة من عام 1397 هجرية 1977م عاد الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى من خارج المملكة بعد رحلة علاجية ؛ لهذا أقام أهالي الطائف حفلات أفراح للابتهاج بعودته معافىً ، وكل حيّ نصب سرادقًا ومسرحًا مزينًا بالأنوار والزخارف ولوحات الترحيب ، وملامح التنافس كانت واضحة بين الأحياء في الاستعدادات وتقديم برامج تركز بالدرجة الأولى على الغناء وتقليد مطربين آخرين من ذوي الشّهرة .

أقيمت الحفلات في أحياء ( السليمانية – السلامة – اليمانية – البخارية – الشرقية ) . وربما حفلات شعبية في أحياء أخرى . ومن خلال تقديري الشخصي ؛ يأتي حفل السليمانية في المقدمة والأفضلية بموقعه في وسط البلد وبتجهيزاته الفنية والجمالية ، ثم بشكل وهيئة الحاضرين والمنظمين ، يتقدمهم عمدة الحيّ وكبار رجال السليمانية بلباسهم التقليدي ( البُقشة والعمة والطاقية العالية ) . الدليل على أفضلية الحفل حضور أعداد غفيرة من الجماهير ، زاد من كثرتهم ؛ إعجابهم بفقرات الحفل … ومنها مشاركة ثلاثة من الفتية يشكلون فرقة مُشاركة يسمونهم ( عيال الاسكندراني ) لا يتجاوز أكبرهم العاشرة من العمر ، وهم محمد وحسن وماهر . وكنت أشاهد الأمريكيين وغيرهم من الأجانب العاملين في الشركات التابعة للقوات المسلحة مع نسائهم وأطفالهم على أكتافهم ، يشاهدون حفل السليمانية إلى وقت متأخر من الليل من دون أدنى تحفظ أو إجراءات أمنية .

أولئك الأجانب يحملون آلات تصوير سينمائية متقدمة لا نشاهدها في الأسواق المحلية ، بالتأكيد
هذا يتسق بما لديهم من اهتمامات تتعلق بالتصوير والتوثيق لطبيعة الحياة الاجتماعية ، وكل مظاهر حفلاتنا موثقة لديهم بالصوت والصورة ، ياترى هل من الممكن أن نجدها يوما ما ؟ … نحن بالكاد تذكرنا وكتبنا بضعة أسطر من باب التوثيق وقد لا نسْلم من النقد … وقد يلحقنا بعض اللوم عندما نكتب عن تاريخ فن من الفنون . بالتأكيد وجود أولئك الوافدين كان ولايزال يشكل رافد اقتصاديا بتسوقهم من المحلات التجارية والشعبية . وهم يدفعون الأموال بسخاء لشراء المنتوجات الوطنية التراثية .

نعود للحفل : حفل حي البخارية والشرقية أقيم في حديقة ( نجمة ) الشهيرة التي أنشئ بها مقهىً جميلا مزروعا بالعشب ( كازينو نجمة ) ، كان ملتقىً رائعا يتناسب مع تطلعات الشباب والقادمين من خارج مدينة الطائف . مواصفاته جديدة وتختلف عن المقاهي الشعبية ذات المقاعد الخشبية ( المركاز ) يقابله مطعم حديث ( سمير أميس ) . وفي الجزء المتبقى من الحديقة أقام أهالي البخارية والشرقية حفلهم الذي لا يقل جمالاً عن حفل حي السليمانية ، حيث تصدح ألحان مطربي الطائف من ذوي الشهرة – رحمهم الله تعالى – ومنهم الفنان ؛ الشريف عبدالله المرشدي ، وفنان ( مكاوي ) اسمه ” عبدالرحمن مؤذن ” الشهير ب ( الأبلتين ) ، غنّى أغنية يُشير فيها إلى ( الهدا ) و ( زحاليق / القيْم ) من كلماتها :
تحت ظل الورد ….. ياما اجتمعنا في الهدا
ياما قصيناها عصاري ….. نمشي فيها ع الهدا
ياقماري بالله قولوا له ….. ليلي سهران بطوله

في طريق القيم صخرة ….. للقماري حظ فيها
ياما رحناها معاكم …… كم تزحلقنا عليها
ياقماري بالله قولوا له ….. أنا في عرضه وطوله

قصة الصخرة والزحاليق المشار إليها في الغناء والشعر ؛ مشتهرة لدى أهل الطائف والقادمين من خارجها ، وتُسرد حولها حكايات لاتخلو من خيال . لكن الحقيقة أنه في ظل شح الامكانات آنذاك وقلة الحدائق ؛ يتنزه الأهالي في مناطق خارج المدينة ومنها بساتين (القيم) و (القديرة) وما يجاورها من صخور ، هناك توجد صخرة مائلة يتزحلق عليها الأولاد والبنات .

وقد مررت بها أياما خلت فوجدت أن (أحدًا) قد سكب على الصخرة مادة سوداء ، إما عبثا أو تنكيدا ، أو اجتهادا حتى يحول دون استخدامها نظرا لما يُحاك حولها من حكايات وشعر وغناء .وبديلا عن تلك الصخرة البائسة أنشأت الحكومة السعودية في الموقع نفسه حديقة جميلة مترامية الأطراف . لكن الثقافة والمشاعر الوجدانية التي كانت سائدة تغيرت الآن ؛ فمع اتساع الحديقة وجمالها وكثرة مرتاديها لم تحظ الحديقة الجديدة ، ولا مرتاديها ببيت واحد من الشعر … فلم يعد ( للقماري حظ فيها ) !!! . ولم يعد هناك أي ( سهران في ليله ) من أجلها .

من الطبيعي أن تكون تلك المشاهد ذات الجانب الفني والاجتماعي بالنسبة لي ولأمثالي من الشباب القادمين من مناطق أخرى للدراسة بمدينة الطائف في بداية التسعينات الهجرية ؛ تُعدّ مشاهد مثيرة وتضيف لنا مزيدا من الإعجاب بهذا ( الطائف ) المدينة النابضة بالحياة . ومع تلك المشاهدات والاحتفالات لم يكن لدينا عِلم بالمحاذير التي ظهرت واتضحت لنا لاحقا فيما يتعلق بالغناء والحفلات الغنائية ، فكل من مرّ ولديه رغبة في الاستماع أو المشاركة في اماكن الحفلات الرجالية ؛ يُعد هذا من الأمور الاعتيادية في عرف غالبية أفراد المجتمع . ولله الأمر من قبل ومن بعد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى