المقالات

روح الصيام

غالبًا ما يُذهل الإنسان كثيرًا عن استقراء الحقائق والتعمق في أبجدياتها وأدبياتها، فيترك ذلك وراءه ظهريًا ويمضي في طيته سادرًا نحو التناقضات بين الحقوق والواجبات، وتُمثَّل عبادة الصوم في الإسلام مثالًا واضحًا للتجليات الفكرية وسبحاتها النورانية البهيجة، والتي تأخذ بعصم الحقائق الشرعية وحُجُزِها ولبابها، ولا تلوي على شيء من بُنيات السبل المشرعة على التناقضات وقلب الحقائق، وأحسب أن بيت القصيد ومعقل الفهم الرشيد، يتطلب من الصائم أن ينفد مباشرة إلى هدفه بوعي وإدراك للعلة المنصوصة للصوم والإلمام بها وضوحًا وتجليًا في ساعات شهر رمضان بليله ونهاره، بما لا يعيقه غبش، أو ذهول، أو تردد، أو سوء فهم، أو صولجان عادة وغلبتها وضغوطها، وتمثل العلة المنصوصة أقوى الأدلة عند الراسخين في العلم؛ بحيث تكون بوصلة الصائم الواعي نحو امتلاك ناصية الصوم المؤثر المقبول في بحر شهر رمضان كله؛ بحيث تتجه نحو الهدف الأساسي للصوم لاكتسابه وغنيمته واستحواذه كاملًا غير منقوص وهو التحلي بصفات المتقين؛ حيث يضع الصائم مجدافه ومرساه على جودي التأثير، والتغيير الخالص من الخرص، والتوهمات، والظنون البعيدة، وتلك من أهم خصائص الشخصية المسلمة الواعية الصائمة، المنعتقة من آصار الوصاية الأبوية المقدسة كما هو الحال لدى الأديان والمذاهب الضالة، وثمة استعدادات نفسية وتربوية وفقهية متضافرة، يدعى إلى فهمها وهضمها الصائم الجاد البصير، الذي يدرك حساسية وأهمية الشهر الكريم، وما يتسم به من الخصائص النادرة، وحسبه الظفر بمغفرة الذنوب، وتجديد الإنابة، وضخ الفؤاد ببرد اليقين، والترقي في معالم الولاية، والظفر بليلة القدر، وليس بالضرورة مشاهدتها كما يزعم العامة، بل يصيبها كل مسلم أدرك تلك الليلة وهو قائم لله بطاعة، ومن الحماقة الانخراط في الجدل العقيم حول علامتها صباحًا والتشوف إليها، وما يُسمى بليلة الختم ثالثة الأثافي التي أفرغت ليلة القدر من محتواها، رغم عدم وجود نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت من الكتاب والسنة تفضلها على ليلة القدر، وقد ساعد بعض أئمة المساجد (هداهم الله) على إيهام العوام بتخصيص البكاء والنحيب بليلة الختم، مما صرفها لتصبح ليلة كورنفالية للبكاء الفولكلوري السنوي، المتكلف بالأصوات المزعجة والنحيب المتكلف مع العيون الجافة، والذي تفسد الصلاة باتفاق الفقهاء متى كانت بتباكي، وتكلف رفع صوت الذي لا يمت إلى الخشوع بصلة، فلنفهم روح الصوم بفقه الشريعة السمحة وآدابها السلوكية السامية؛ لنحصد ثمرة الصوم هداية وصلاحًا ومغفرة وعتقًا من النار.
وهذه أبيات كتبتها بهذه المناسبة ..

لا تحْسبنَّ الصومَ أكلَ حلاوةٍ
أو مضغَ زادٍ بالعشيِ يُرادُ

أو سهرُ منفوسِ الحظوظِ بغفلةٍ
يُقضى بِعُدمٍ للأجورِ يُرادُ

أو سُوءُ فَهْمٍ يُنتضى بعلاقةٍ
نحوَ الجهالةِ مَرْتَعٌ وقيادُ

أو ضِيقُ صدرٍ ينتهي بعجائبٍ
نحوَ الجهالةِ موبِقٌ وسنادُ

أفهمْ هُديتَ إلى الحقائقِ راشدًا
فالفهمُ وعيٌ شاملٌ ورشادُ

وانفذْ إلى لُبِ الحقيقةِ ساعيًا
فالدينُ حقٌ للمُريدِ سَدادُ

ركزْ على صيدِ الفرائدِ جاهدًا
سَهمُ الديانةِ مرتقى وجِهادُ

لا تأخذَنَّكَ عادةٌ وجهالةٌ
والعمرُ يمضي والحياةُ نَفَادُ

وافهمْ حقيقةَ دينِنِا بِلبَاقةٍ
وسمُ العبادةِ نهضةٌ وتِلادٌ

فالصومُ مَعْرجُ سؤددٍ وقيادةٍ
حظُ السعيدِ ريادةٌ ونجادُ

ليسَ الصيامُ بحفلةٍ بصُراخِها
وضحاكُ سنٍ نكتةٌ ورقادُ

هي منحةُ الربِ الرحيمِ لخلقهِ
والراشدونَ دلالةٌ وعتادُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى