المقالات

رمضان .. حلم أذان المغرب

 يعاودني الحنين المخضّب بالشجن كلما لاحت في ناظري طلقات التباشير الحمراء بحلول شهر رمضان المعظّم ويأخذني رمضان معه في رحلة الطفولة البيضاء نحو اختزالات الذكريات وقريتي التهامية الحسناء وما أجمل رمضانات القرى وهي تعانق هلاله عند كل غروب .. نحو طفولة لم تزل تعش رمضان بشغف الّلهفة واللّوعة البكـر وذهول اللقاء .
رمضان الدكان والفوانيس وحكايات العم ” إبراهيم ” ترسم ملامح حروفه الخمسة وتراتيل تستلقي في آخر أنفاس مذيع الأخبار وهو يعلن عن رؤية هلال رمضان ..هناك يا رمضان نلتقي في مسجدنا الشعبي الصغير حيث نحمل مع أبي رطباً جنيّاً نقسّمها على بيوت القرية الأم .. يرافقنا أخي الأصغر سناً وفي المساء يعاودني صوت شاب نحيل أسمر يصطفُّ خلفه شيوخ قريتي الباقون والراحلون الذين لا يعودون إلا في رمضان ولا يمكثون إلا في مسجدهم العتيق كأنّهم يلقون دثار أرواحهم عليه فتلتحف به كل شرايين الحياة تلك الحياة تحنو لأرواحهم وإن رحلوا وغابوا عن المشهد  .. ومضيت فيك يا رمضان اعيدُ فيني من روح وحيك وابتهالاتك ومازلت معك أعشق خبز أمي وأطباق الجيران الشهيّة نتذرّعُ برمضان طولاً لا ينتهي وروحانية تسكن كل الأرواح .. كأنّ رمضان رأى دمعة مناجاة على فقده قبل أن يولد فمضى دون أن ينبس بكلمة ..
مالي أسيرُ في طريق ٍغير الطريق وحيداً بعيداً عن تداعيات رمضان ؟
مسلسل أم حديجان  وعلى مائدة الإفطار والشيخ علي الطنطاوي ، موسيقى رمضان وخواطر الشعراوي ، وبركة رمضان على ألسنة الجدات مازلت يا رمضان كبيراً عظيماً ..
كل الشهور تبدأ صغيرة ثم تكبر إلا أنت وجدت هكذا شيخاً جليلاً وقوراً ذا لحية بيضاء ولباس أبيض وقلب أبيض يجتمع بأحفاده كل عام ..
رمضان حكايات المغتربين الذين مازالوا يحلمون بالأوطان كما كتبها بدموعه الأديب الأريب الصديق العزيز عوض السوداني الظريف جداً والذي يقضي جُلَ وقته في القراءة في ذات المكتبة التي يعمل بها وما أكثر أصدقائي السودانيين الظرفاء !
وفي رمضان تتجلّى صور الإنسانية في كل أقطار وطننا الإسلامي والعربي ولكنها أكثر جمالاً في السودان حيث الطرق السريعة تعتصب بعمائم الكرم البيضاء فلا تسمح للمسافرين العابرين بالعبور حتى يقف ” الزول ” منهم ويتناول وجبة الإفطار ومادام الحديث هنا عن كـرَّم السودانيين فلا بأس من ذكر قصة الطبيب الأثيوبي الذي عُين في أم درمان طبيباً وصادف أن يكون في رمضان وكان الجو حاراً يطبخ على صفيحٍ من لهب فأرسلوا رفيقهم ليشتري لهم ثلجاً يبرّد قلوبهم .. ولكن رفيقهم لم يأتِ  إلا بعد صلاة التراويح تيّقنوا فيما بعد إنه الكرم السوداني الأصيل وعادة العمائم والطرق السريعة ..
رمضان السودان أشبه بمسحة على رأس يتيم أو إطعام في يوم ذي مسغبة وأجود ما يكونون في رمضان ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، وفي رمضان تكاد تناوشني أيادي التائبين في ازدحام الأنفاس والبكاء في خلد رحمة ومغفرة وعتق من النيران هناك تتكسّر مجاديف الخوف والظمأ والجوع على ساحل كفين مرتعدتين وارفتين  بالتجاعيد تحملان ترساً محمّلاً بما لذ وطاب من افطار مغرب غرة رمضان ..
وهل لنا غير رمضان نجتمع على مائدته ؟
يشعرنا بقيِّمه الإسلامية الإنسانية الحقّه كالجسد الواحد .. كأني قد استأنست برمضان ضيفاً كريماً عزيزاً  يستجمع شيوخ قريتي على قلب وحصير واحد بينهم سائل صدقة وعابر سبيل وغريب هاجرت به أحلامه ؛ بحثاً عن لقمة عيشه قد ساقتهم الدنيا صدفة معنا أو رحمة بنا أو لصورة من صور رمضان الكبير أو كما يقول أحدهم :
ومن مستحبات الشهر الفضيل تعجيل الفطور وتأخير السحور ..
وما زلت في قلب الحكاية أسترق نظرات شوق لبيت الله الحرام في عيون مسافر خلّد رحلته طريق الساحل وقهوة الجبل وما أكثر العابرين بهذه الاستراحة التي خُيّل لنا إن كل حاجٍ أو معتمرٍ  يقضي بها زمناً !  مناجاة الروح والبوح وهدايا العمرة وفضل حجة مع النبي محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
هناك يستوقفني غروب رمضان الأول في الفضاء وخلف السحاب والجبال أصوات المؤذنين .. ما زلنا نسمع صوت مؤذننا الكهل في داخلنا وفي جنبات الأزقة والأمكنة وإن رحل !
كأنه يبعث فيها سنن رمضان وتوادهم وتراحمهم دعاء القانتين ” اللهم اجعلنا من صوّامه وقوّامه شياطين تُصفّد وأبواب جنة تُفتّح وباب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون وخطوات الصائمين في ثنايا طفولة حالمة ترسم هلال رمضان ونصر المسلمين المؤزّر في غزوة بدر الكبـرى نقطة التحول ونقطة الفصل بتاريخ إسلامي عظيم .. تبوح تلك الذاكرة بأسرارها في حلم أذان المغرب ..رمضان شهر التكافل والخير وتلمّس حال المعوزين والفقراء والمساكين الذين يتمثلون الآية الكريمة :
” يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ”  [ سورة البقرة الآية 273 ] .
 

ومضة  :
يستطيل رمضان بطول المآذن في السماء وتصحو المقابر في الدعاء ويلعب الأطفال في الطرقات وتزداد الفوانيس وهجاً كلما أعدنا رمضان كأنه دهشة الحب الأولى أو كأنه رحيل أمي الأخير ..  رمضان ناموس البشرية وإن أفسده الرحيل والغياب والكراهية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى