المقالات

فوانيس

أثناء تجوالي هذا المساء، التقطت عيناي فوانيس رمضان، وقد ازدان بها السوق، كما تصدرت واجهات محال أخرى، تسابق الزمن لبيعها قبل حلول شهر رمضان الكريم الذي بدأت روائحه تسري في أرجاء قريتي (البرك) التي ما غادرتها يومًا منذ ميلادي، فهي فى القلب أينما حللت؛ ولذا رسمت خريطتها التي اتسعت بمرور الأعوام لتواكب التطور.
وفي أثناء سيري كان شريط الذكريات يتحرك هو الآخر أمام عيني؛ وكأنه يحاول إعادتي إلى أعوامٍ طوال مضت تخطت الأربعين عامًا حين كنت في المرحلة المتوسطة، وهأنذا أشاهد قريتي الساحلية المطلة على البحر الأحمر التي يعمل عامة أهلها في حرفة الصيد بحكم موقعها الساحلي وحرفة رعي الغنم بحكم جغرافيتها الجبلية، وقد دبت الحركة بين جنباتها استعدادًا لقدوم شهر الخير والبركة، وتلك كانت إحدى ميزات قريتي التى توارثتها الأجيال مع اختلاف الثقافات الناجمة عن تعدد القبائل القادمة من المناطق المجاورة؛ بحثًا عن لقمة العيش فيها، والاستيطان بها.
أرى الشريط يمر أمامي، وأرى بيوتها الصغيرة المتناثرة أحيانًا والمتلاصقة أحيانًا أخرى، وقد اشتركت جميعها في صفات بنائها؛ وكأنها صفات وراثية أو سمة من سمات قلة الموارد؛ حيث كانت جميع بيوتها من الحجر وسعف النخيل (العشش) بدت كثوب موحد ترتديه بيوتها التي تتخللها أزقة حارات ضيقة تُزينها مساجد صغيرة المساحة.
كنا نسكن في عشة صغيرة بجوار المسجد الجامع ووالدي مؤذن المسجد، وله دكان صغير لبيع حبوب القمح بجوار مسجد السوق الذي كان أخي إبراهيم -رحمه الله- إمامًا لذلك المسجد، كان والدي يحثنا أنا وإخوتي على الصلاة في المسجد وقراءة القرآن.
يا ألله ها أنا أرى العم إبراهيم العجوز الكفيف في طريقه إلى المسجد للصلاة، وهو الذى ما تخلف يومًا عن صلاة الجماعة، وحينما دفعني الفضول لأعرف كيف يمكنه المواظبة وقد حرم من نعمة البصر ولا أحد يصحبه للمسجد ؟، فوجئت بالحقيقة، ويا لها من حقيقة أبهرتني حينها ولشدة حرصه على حضور الصلاة مع جموع المصلين، كان قد ربط حبلًا طويلًا بين بيته والمسجد يلتمس به طريقه حتى يصل إلى المسجد ذهابًا وإيابًا؛ وذلك لعزة نفسه واعتماده عليها حتى لا يشق على أحد.
وما إن يحل شهر رمضان المبارك حتى تبدأ الأسر بالتزاور والتهنئة بالشهر الكريم، وأكاد أسمع من بعيد الآن صوت المؤذن علوي ينادي بأعلى صوته من فوق المسجد سحور، سحور يا صايمين سحور ويتكرر نداؤه كل ليلة معلنا موعد السحور.
لم تكن هناك مقاهٍ أو ديوانيات يجتمعون فيها لقضاء لياليهم بل هناك دكاكين مشهورة، اعتاد الناس الجلوس فيها كدكان الوالد أحمد مشعمل (حديش) -رحمه الله- المشهور بأحاديثه وقصصه الجميلة، ودكان العم شامي محمد والوالد علي زيلعي والوالد محمد بن علي مشعي وغيرهم -رحمهم الله جميعًا – إذ يقضون لياليهم في سرد القصص والحكايات لقضاء سهرتهم بينما الأطفال في الليالي القمرية يلعبون لعبة حصية قمر (العظم)، وهي من الألعاب المحببة والمتوارثة لديهم.
وها أنا أرى تجمعات أهالي البرك في إحياء ليالى رمضان على ضوء الفوانيس بعد انتهاء صلاة التراويح في حلقات لمدارسة القرآن وتلاوته، وتعليم من لا يحسن التلاوة.
وللعشر الأواخر من رمضان النصيب الأكبر؛ حيث يُقام ختم للقرآن في ليلة السابع والعشرين في مسجد بن حميدان وليلة ٢٩ في الجامع الكبير كما كانوا يودعون رمضان بموشحات جميلة في أواخر رمضان كان الرجال يجهزون أثواب العيد والنساء يجهزن ملابسهن الجديدة، احتفاءً باستقبال العيد والبعض يُسارع في إخراج زكاة ماله؛ لينتفع بها المحتاجون من أهل القرية.
وترمق عيني من بعيد مدرستي الملحقة ببناء قصر الإمارة التي كانت خير داعم لنا بخدماتها وعطاء أميرها الشيخ إبراهيم بن عبد الرحيم -رحمه الله- الذى ما توقف يومًا عن خدمة أهل البلدة والقرى المجاورة لها.
كان لأسرة آل عبده وهم أمراء البلدة دور مهم في لمّ شمل القبائل، ومنهم أيضًا أعلام بارزة في تاريخها، أذكر جارنا الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الرحيم علم من أعلام البرك له جهود كبيرة منها كتابه من تاريخ برك الغماد بين الحاضر والماضي، قدّم فيه مادة دسمة لمن أراد أن يفتح صفحة ماضي البرك، ويتجول بين حاضرها وماضيها أو يتصفح سطور تاريخها جزاه الله عن أهل البرك كل خير.
كانت ساحة المدرسة ملاذنا لممارسة الأنشطة الرياضية المتاحة حينها، وأراني أبحث بعيني عن مستوصف القرية؛ كي أرى الطبيب سامي والممرض ماهر، وهما يتحركان في نشاط في أرجاء المستوصف، وعلى وجهيهما بشاشة يستقبلان بها المرضى.
عيناي تتجول في أطراف القرية تبحث في معالمها، لأرى بئر (المجدور) القريب من البحر، وأهالي قريتنا يجلبون منه الماء للسقي، كما أرى سوق القرية الشعبي الذي يعقد صباح كل يوم ثلاثاء ليمد الأهالي باحتياجات الحياة من غذاء وكساء، رغم أن السمك كان متاحًا يوميًا بحكم أن القرية ساحلية ومعظم سكانها يحترفون الصيد، والبعض الآخر يحترف مهنة رعي الغنم والخروج بها كل صباح إلى المرعى على أطراف القرية؛ حيث الكلأ تأكل منه وترعى، حتى موعد العودة قبيل غروب الشمس.
كانت مهام النساء جمع الحطب لإيقاد التنور وإعداد الطعام.
استوقفني منظر سيارة (المرسيدس) المحملة بالبضائع يقودها سرحان تسير في حارات القرية غير المعبدة ونحن نركض خلفها، في طريقها إلى أصحاب الدكاكين في قريتنا، كي تمدها بالبضائع كما تمر على دكاكين القرى المجاورة من حولنا، وكنا ننتظرها بفارغ الصبر.
يمتد نظري إلى القرية من أعلى؛ كي يقترب من بيوتها التى ازدانت استعدادًا لقدوم شهر رمضان المبارك، وأتسلل بعيني إلى داخل دارنا، وقد تزينت الطاولات والسرر وفي الأركان انتشرت الجرار لتبريد المياه، وقد تبخرت بالمستكا والجاوي لتعطي المياه نكهةً ومذاقًا طيبًا وجميلًا.
وتلتقط أذني صوت جارتنا، وهى تُنادى أمي وجاراتنا الأخريات للحضور، فقد أوقدت التنور لديها، لمشاركتها في إعداد الطعام، وتلك كانت عادات النسوة في التكافل والمشاركة وبالطبع بعدما ينتهي الجميع من قضاء احتياجاتهن من التنور، لا بد أن تعطيهن قطعًا من السمك كما كانت تفعل كل النسوة حينما توقد احداهن التنور في دارها، للتعاون على متطلبات الحياه، رحم الله من مات وبارك في عمر من بقي.
عندما نعود لهذه الأماكن، يمر بنا شريط سريع للذكريات التي كنا نعيش في أجوائها ونتفاعل معها بحواسنا، حتى إننا نشتم روائح العطور التي كانت ضمن تلك الأيام الخوالي.

‫5 تعليقات

  1. عشنا الماضي بتفاصيله في ثنايا سردك الرائع ، أبدعت وليس بغريب عليك وفقك الله أخي أبا رمزي .

  2. بارك الله فيك بالمناسبة الاعمى الذي تكلم عنه هذا من ال مقاري من ربعي حتى انه يذكر لي انه كان المضياف ل جماعته اثناء نزولهم الى البرك

  3. وانا اقرأ هذا المقال عشت أحداث الماضي التي يرويها لنا الأباء والأجداد ،اعجبتني السلاسة في الكتابة والتنقل بين الأحداث واعجبني ايضاً وصفك لتك الذكريات، جمال هذا المقال لا يستغرب من معلمي الذي تعلمت انا وزملائي على يده قواعد النحو والصرف العربي وقد تخرجت على يده العديد من الأجيال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى