المكيُّ مبدعٌ بالضرورة! تأملات على هامش مبادرة مركاز البلد الأمين
لا مريةَ في أهمية مكة المكرمة تاريخياً؛ فهي أول بيت وضع للناس، وإليها هاجر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ومنها انبثقت زمزم السخية، وفيها ولد النبي -صلى الله عليه وسلم، وعلى أرضها هبط الوحي الكريم. ولا مرية في أن لمكة أثراً على إنسانها طوالَ العصور، فقد وفد عليها المسلمون من كل حدب وصوب، وخالطوا أهلها، وبثوا علومهم في جنبات الحرم المكي، وغير ذلك من الظواهر الثقافية والاجتماعية التي كان لها عميق الأثر في الإنسان المكيّ الذي أصبح متعددَ الأعراق والأطياف، بل ومتعدد التقاليد والعادات. وجعل هذا مكةَ بلدا عالميا (كوزموبولوتيًّا) بامتياز، والمكيَّ كذلك.
إن هذه الثروة الإنسانية مظنة الإبداع؛ إذ يَنظرُ المكيُّ إلى الأشياء بعين مدرّبة على قراءة التجارب المختلفة لديه ولدى إخوته ممن ينتمون إلى نفس المكان، وعيون المارين عليه من حجاج ومعتمرين.
وأذكر أني كنت أفاخر بهذا على زملائي الأمريكيين أقول لهم: إني مكيّ عشت مع أصدقائي وزملائي من البدو والحضر، والأفارقة، والإندونيسيين، والمصريين، والشاميين، وغيرهم ممن يسكن هذه الأرض المقدسة. أقول: عشت معهم على بساط واحد؛ نجلس في مقهى واحد، ونأكل نفس طبق الفول، ونتفق على حب الكابلي، ونكرع ماء زمزم الطاهر مبخراً بالمستكة في تلك الآنية النحاسية المزركشة، ونذهب إلى الحرم المكي، ونذاكر استعدادا للاختبارات النهائية، ثم نقفل راجعين إلى بيوتنا يرجع كل واحد منا، وقد التبست تجربته بتجربة أخيه، وعلم منه ما ليس عنده فاكتملت تجربته وأصبح أكثر نضجا.
هذا ما تأكد لي اليوم وأنا أحضر بدعوة كريمة فعالية مبادرة مركاز البلد الأمين—وهي تسمية مكية بديعة. وترعى هذه المبادرة عديد المؤسسات والجهات المختلفة من القطاعين العام والخاص، ويقوم بتنظيمها شباب مجتهدون، تحدوهم رغبة جادة إلى النهوض بمكّتهم. لقد أعجبت بتنوع العقول والتجارب، من رجال أعمال، وأكاديميين، ومثقفين، وأدباء، وفنانين، كبارا وصغاراً، نساء ورجالا. فانصهرت كل هذه العقول في مكان واحد اتفقت على حبه والانتماء إليه، والرغبة في النهوض به ثقافيا، وتاريخيا، وسياحيا، وعمرانيا. ولقد استمعت إلى عديد المبادرات الإبداعية التي تناقش إثراء المحتوى الصوتي والكتابي عن مكة، وتفعيل الأماكن التاريخية سياحيا، رغبةً في التجاوب مع التطور الهائل الذي تشهده المملكة في ظل رؤيتها الفتيّة ومنافسةِ أبناء المدن الأخرى؛ ليعمل كل واحد منهم لأجل المكان الذي ينتمي إليه يحاول تجويد قطعته التي ستوضع في هذه اللوحة البديعة الكبرى المملكة العربية السعودية، في سعيها الحثيث للنهوض بالمكان والإنسان.