وأهم من ينظر إلى رحلة الابتعاث إلى خارج المملكة على أنها مُجرد انتقال مكاني للحصول على شهادة رفيعة! فالشهادة يُمكن الحصول عليها من داخل الوطن، ولكنها مزيد كمال في التعلم كما قال ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
بعد حصولي على الدرجة قامت “أم مشرف” بتنظيم احتفالية بهذه المناسبة، من المدعوين لهذه المناسبة عميد الكلية البروفيسور “موريس”، والمشرفة على دراستي البروفيسورة “سيلفيا لوتكنز”، والمُناقش الداخلي عضو هيئة التدريس بالكلية البروفيسور “جون لين”، وبعض زملائي في الكلية منهم العم “جونز” مهندس النظافة؛ إضافة إلى بعض صديقات “أم مشرف” في القرية، وقد أقيم الحفل في فندق “بلفيو” في وسط المدينة الواقع أمام شاطئ البحر.
وبعدها قام جيراني في القرية بعمل “حفل شاهي”؛ بمناسبة قُرب مغادرتي للقرية عائدًا إلى بلدي الحبيب المملكة، وقد تم دعوة أصدقائي وزملائي من الولشيين في الجامعة، وكانت مناسبة جميلة، أظهرت مدى تقدير هؤلاء القوم لي ولأسرتي، ولا أنسى صاحب المنزل الذي قال عند مغادرتي المنزل: “سيد عساس نحن نفكر فيمن سيأتي من بعدك للسكن في المنزل”.
بعدها بأيام بدأنا في الاستعداد للعودة إلى المملكة، وكان عليَّ أن أتخلص من جميع أثاث المنزل والمركبة التي قمت بشرائها في السنة الثانية من البعثة، وتسديد قيمة فواتير الماء والكهرباء وتسليم المنزل لصاحبه.
غادرت المنطقة متوجهًا لمدينة لندن لتقديم أوراق التخرج والسلام على الملحق التعليمي السعودي، وإغلاق ملف ابتعاثي، واستلام مستحقات نهاية البعثة وتذاكر السفر، وخطاب انتهاء المهمة لتقديمه لإدارة جامعة الملك عبد العزيز.
لقد حظيت بترحاب كبير من قبل الملحق الثقافي وقتها الأستاذ “عبد الله الناصر” والمسؤولين بالملحقية الذين قدموا لي التسهيلات والعون، وأنهيت كل ذلك بيسر وسهولة.
لقد كانت السنوات الأربع التي قضيتها في بريطانيا تُعادل عُمرًا بأكمله، بما فيها من التجربة والتعليم والاحتكاك الثقافي مع أبناء المدينة والقرية والجامعة.
إنها الغربة التي يضطر الإنسان إليها طلبًا للعلم، وبما أن اليسر يأتي بعد العسر، فقد كان في عسر هذا الاغتراب فوائد كثيرة، منها ازدياد المعرفة والحصول على الدرجة، والخبرة والتحمل إلى غيرها من الفوائد المادية والمعنوية.
إن مشاعر الغُربة تقل بمرور الوقت باكتساب الصداقات الجديدة، وهكذا واجه الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- في بداية هجرتهم من مكة إلى المدينة صعوبة ومشقة بالغة حتى إنه ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “وَاَلَّذِي نَفْسِيٍّ بِيَدِهِ لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأوَاءْ اَلْمَدِينَةِ إِلَّا أَدْخَلَهُ اَللَّهُ اَلْجَنَّةَ “.
أغلقت بعدها ملف هذه الرحلة بعد أن منَّ الله عليَّ بالحصول على الدرجة بفضله وإحسانه أولًا، ثم بدعاء والدتي الحبيبة: “الله يجعل لك في كل طريق رفيقًا”، استجاب الله لدعائها…وقد كان.
0