يُعد شهر رمضان المبارك أعظم الشهور وأبركها على الإطلاق لتنوع العبادات فيه ما بين صلاة وقيام وقراءة للقرآن، وما بين صدقات وزكوات تطهر الأبدان والأموال؛ فيجدد قدومه فينا أروع اللحظات التي نستذكر من خلالها أجمل الذكريات التي نحتفظ بها منذ نعومة أظفارنا فتبعث فينا شيئًا من الحنين إلى الماضي وحكاياته التي تُخالج المشاعر، وتأسر القلوب، لأنه شهر له مذاقه الخاص يجعل القلوب تنتظره بشغف في كل عام؛ لذلك فإن الذاكرة تختزن الكثير من الروحانيات والقيم والعادات الرمضانية التي ربما تلاشت مع مرور الأيام والأزمان.
ومن ذاكرة الزمان نستذكر بعض بقايا رائحة رمضان القديمة عندما كانت مسيرة النهار الرمضاني تبدأ مع انبلاج ضوء الصباح؛ حيث ينطلق الرجال والنساء إلى أعمالهم بكل همة ونشاط على الرغم من أن معظم تلك الأعمال كانت شاقة للغاية بسبب طبيعة الحياة القديمة التى تعتمد بشكل أساسي على المهن والحرف اليدوية فكانوا يتحملون كل تلك المشاق فى صبر وجلد؛ فالنساء يقمن بجمع الحطب، وإحضار الماء من الآبار بالإضافة إلى تنظيف بيوتهن، وتجهيز طعام الإفطار أما الرجال فإنهم يعملون في المزارع غالبية ساعات النهار إلى ما قبل لحظات الغروب؛ حيث يحثون الخطى راجعين إلى منازلهم ليستمتعوا بالجلوس بجوار البيوت مع جيرانهم؛ فيتبادلون الأحاديث إلى قبيل لحظات الإفطار فيتوجه كل واحد منهم إلى منزله لتناول طعام الإفطار. في جلسة عائلية أبرز سماتها البساطة واللمة الحلوة التي تنسيهم تعب يومهم الشاق.
وإذا ما طفنا بالذكريات في عادات الموائد الرمضانية؛ فإننا حتمًا سندرك أن هذا الشهر كان له مأكولاته الخاصة التي كان يفتقدها الناس طوال العام ولا يرونها على موائدهم إلا عند حلول هذا الشهر الكريم؛ حيث يشعرون بلذة تلك المأكولات كالشوربة والسمبوسة والفيمتو وغيرها من الأكلات التي كانت إحدى خصائص شهر رمضان المبارك؛بالإضافة إلى ما كان بين الجيران من التآلف والتواصل وتبادل المأكولات الشهية، فالجميع كانوا يحرصون على إرسال أطفالهم قبل الإفطار بدقائق لتبادل طبق اليوم، كنوع من تعويد الأطفال على البذل والسخاء والإحساس بالجار، وكان لهذه اللفتات البسيطة أثر في تكوين شخصية الأبناء. كما كان الأطفال يتسابقون لسماع صوت المؤذن؛ وذلك بالصعود على أسطح المنازل لإخبار الأهل بأن موعد الإفطار قد حان فكانت من المظاهر المحببة التي لا تنتشر إلا في رمضان. أما الطقوس الاجتماعية؛ فقد كانت مميزة بين الأهل والأصدقاء فكان ليل رمضان يطول بتلك السهرات المفعمة بالتواصل والمحبة والتآزر.
وحينما تأخذنا الذاكرة إلى الوراء قليلًا نستذكر الطقوس والحكايات والمواقف الطريفة التي ما زلنا نبوح بها ونتغنى ببساطتها وروعة معانيها، ومن تلك المشاهد الرمضانية مشاهد اللهو واللعب في حلكة الليل دون أي خوف أو فزع؛ وذلك نتيجة ما كان يسمعه الصغار من الكبار من رسائل إيجابية تتمثل في احتباس الشياطين وتقييدهم بسلاسل غليظة فلا يعود لهم اثر في الليالي المظلمة، فصار الاطمئنان يسري في النفوس الصغيرة باللهو البريء واللعب ناهيك عن ما يرافق ذلك اللعب من مواقف طريفة تبعث في النفوس الاستمتاع الروحي والجمالي الذي يفتقده الأطفال باقي أيام السنة.
وختام القول فهاهي الأعوام تتوالى، وها نحن قد كبرنا وها هي عجلة الزمان تدور وتتسارع ليزورنا اليوم رمضان وليس لنا منه سوى الذكريات، وما أجمل تلك الذكريات التي نسترجعها ونشعر معها بجمال براءة الطفولة التي كنا نعيشها ويفتقدها أبناؤنا في هذا الزمان .. فقد تغيرت معاني رمضان الجليلة ومظاهره الروحانية، بل وحتى مأكولاته الخاصة التي أصبحنا نراها في الأسواق طوال العام فلم تعد لها تلك النكهة المميزة وصرنا نبالغ في إعداد الأطباق، ونتفنن في تنويع المأكولات الشهية وكأننا لا نأكل قبل رمضان ولا بعده.
وخزة قلم
كل شيء في رمضان تغير إلا سهر لياليه، فنحن شعب ننظر لهذا الشهر على أن نهاره للنوم وليله للسهر.