المقالات

رمضان في اللسان العربي

اللسان العربي وعاء الفكر والأحاسيس والمشاعر، وسع كتاب الله لفظًا وغاية، فلم يعجز عن آية به أو عظة، كما أنه وسع كل ما أودعه الله في كتابه الكريم من أشياء؛ فلم يفرط في شيء منها، ولذلك قال الله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام: 38)

وفي هذا المقال لنا وقفة مع كلمة (رمضان) الدالة على شهر الصوم عند المسلمين والذي ذكره الله بقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (سورة البقرة:185) أُنزل فيه القرآن باعتبار أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فهذا محمله عند طائفة من أهل العلم، أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي: إلى السماء الدنيا، وبعضهم يقول: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي: اُبتدئ إنزاله على النبي ﷺ في شهر رمضان، وإلا فمعلومٌ أن القرآن أُنزل في شهور العام، ولم يقتصر نزوله على شهر رمضان، فهذان قولان مشهوران، وقد جمع بعض أهل العلم بين القولين: بأن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في رمضان، في ليلة القدر، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (سورة الدخان:3) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (سورة القدر:1) فالليلة المُباركة هي ليلة القدر، وهي من شهر رمضان، كما قال هنا: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فهذا جمع بين القولين: أنه نزل جملة إلى السماء الدنيا في رمضان في ليلة القدر، واُبتدئ إنزاله أيضًا على النبي ﷺ كذلك في رمضان.

والمعروف أن العرب قبل الإسلام كانوا يستعملون السنة القمرية، وكان بها اثنا عشر شهرًا قمريًا تضبط من رؤية الهلال إلى رؤيته ثانية، وكان فيها أربعة أشهر حرم يقعدون فيها عن القتال، ويقيمون فيها أسواقهم بعكاظ وغيرها، ويحجون إلى الكعبة وهم آمنون فى سفرهم وإقامتهم من الغارات والسلب وقطع الطريق.

وبحسب الدين الإسلامي، فإن الأشهر القمرية والتى تُعرف أيضًا بالهلالية (نسبة إلى بدايتها برؤية الهلال)، هى الأشهر المعتمدة فى الحسابات الشرعية كبلوغ الصبي والفتاة، والعبادات في الشريعة الإسلامية، وهي اثنا عشر شهرًا بينها أربعة حرم، وذلك وفقًا للنص القرآني في سورة التوبة – الآية 36: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أما أسماء الشهور في الجاهلية فهي على النحو التالي: المحرم: (المؤتمر)، وصفر: (ناجر)، وربيع الأوَّل: (خَوَّان أو خُوَّان)، وربيع الآخر: (وُبْصَان أو وَبْصَان)، وجمادى الأولى: (الحَنين)، وجمادى الآخرة: (رُنَّى أو رُبَّى)، ورجب: (الأَصَمُّ)، وشعبان: (عاذِل)، ورمضان: (ناتق)، وشوَّال: (وَعِل)، وذو القعدة: (وَرْنَة، أو هُوَاع)، وذو الحجة: (بُرَك)، وذُكر غير ذلك في هذه الأسماء، وهناك من خالف جمهور العلماء في أسماء هذه الشهور، ولعلنا نقف عند معنى رمضان في اللسان العربي ابتداءً باسمه عند العرب قبل الإسلام، ثم معنى كلمة رمضان في الإسلام.

سُمى العرب شهر رمضان في العصر الجاهلي قبل الإسلام عدة أسماء منها: “تاتل”، ومعناها شخص يغترف الماء من بئر أو عين، كما سموه اسمًا آخر هو “زاهر”، وقيل في هذه التسمية: إن هلاله كان يوافق مجيئه وقت ازدهار النبات عند العرب في البادية في الجاهلية الأولى.

كما سمى العرب رمضان “ناتق”؛ لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم بشدته، وقيل لكثرة الأموال التي كانت تجبيها العرب فيه، أما تسمية “ناطل” فمن معاني “النطل”، وهو ما يرفع من نقيع الزبيب بعد السلاف الجرعة من الماء واللبن والنبيذ والخمر.

ولو تتبعنا التسمية لشهر رمضان في كتب اللغة، سنجد أنه فى المرحلة الثانية من العصر الجاهلي، وهى مرحلة العرب المستعربة استقر الاسم عند رمضان، وهو من “الرمض” أي شدة الحر، ومنهم من قال إنها مشتقة من “الرمضاء”، ومن ذلك قول الشاعر:

المستجير بعمرو عند كربته … كالمستجير من الرمضاء بالنار

ويرى الجوهري صاحب الصحاح أن العرب المستعربة حينما نقلوا أسماء الشهور عن لغة العرب العاربة عاد وثمود وغيرهما، سموا الشهور بحال الأزمنة التي وقعت فيها عند التسمية فاتفق أنهم حينما أرادوا تغيير اسم “ناتق”، وهو اسم شهر رمضان عند العرب العاربة، وكان الحر والرمض في أشده، فسموه “رمضان”.

أما كلمة رمضان فمعلومٌ أن الجذر “ر م ض” يدل على معنى الحِدّة في شيء من حَرّ وغيره، والرَّمَضُ هو شدّة الحَرّ، ومن هنا سُمي ما تسبّبه الشمس من شدّة الحرارة في الحجارة أو الرمل “رمضاء”، وكان القدماء يستغلون هذه الحرارة الشديدة في صيد الظباء، فيتبعون الظبي في وقت الهاجرة حتى إذا أرهقوه وتفسّخت قوائمه من شدّة الحَر أخذوه، ويسمون ذلك: “التّرمُّض”، أما رَمْض الغنم فهو أن ترعَى في شدّة الحَرّ”، ونقل أبو بكر بن دريد الدوسي (223هـ/837م – 321هـ/933م) وهو شاعر وأديب من نسل ملك العرب مالك بن فهم الدوسي الأزدي أنه “لما نقلت أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر شدة الحر، وقيل بل لأن وجوب صومه صادف شدة الحر، وقيل الصوم فيه عبادة قديمة فكأنهم سموه بذلك، لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته”.

ويُقال: إن أول من سماها بهذه الأسماء “كلاب بن مرة” من قريش، وقيل كذلك إن العرب كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان أي يدقونها، ويشحذونها بين الحجارة استعدادًا للحرب في شوال قبل حلول الأشهر الحرم”.

وبالنظر إلى تسميات شهر رمضان قبل الإسلام وبعده نجد أن دلالات المفردات: تاتل – زاهر – النطل – ناتق، ثم رمضان كلها تحمل معنى المعاناة والشدة والحُرقة والحر وهي معانٍ كلها تدل على معنى الحِدّة في شيء من حرٍّ وغيره.

أ.د. محمد بن عبد الله الشدوي

كلية العلوم والآداب بالمخواة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى