(كلما جاءت سيرة الأم، أي أم، في الدنيا، وكلما احتفل أحفادي وحفيداتي، بعِيد الأم، وأذاعوا أغنية الراحلة فايزة أحمد: (ست الحبايب يا حبيبة)، وجدت نفسي أدخل في شعور غريب، فأجهش في البكاء، وأعتزل في غرفتي، أجلس وحيدًا مع دموعي، يلفني حزن شديد، وأصبح يتيمًا فَقدَ كل شيء في حياته. لقد كانت أمي -رحمها الله-، بالنسبة لي، أمًا وأبًا وصديقة وحبيبة ومُلهمة ومعلمة ومؤدبة وموجهة ومربية، كانت هي سعادتي وسروري وراحتي وطمأنينتي، كانت كل شيء في حياتي، كنت لا أفارقها أبدًا…
وبعد أن قصتْ عليَّ قصتها، ومعاناتها مع الغُربة، حيث جاءت من تونس وعمرها 13 عامًا، تربتْ وعاشتْ غريبة، لم ترَ أمها ولا أهلها ولا صديقاتها، ولا الزقاق التي كانت تلعب على ترابه، في طفولتها في حي (باب سويقة في تونس) إلا بعد عشرين عامًا، قضتها في الغربة والوحدة وألم الفراق.
لقد شعرتُ بها وبأوجاعها، التي عانت منها، حتى أصبحت أمي، هي بؤرة اهتماماتي هي الشخص الذي يجب أن أهتم به، وأراعي شعوره، فأخذت على نفسي عهدًا أن أسعدها وأجلب لها الفرح والسرور والابتسامة، لكي أعوضها ما عانت منه، فكنت لا أفارقها، ولا يمكن أن يغمض لي جفن إلا بعد أن أطمئن عليها. ففي كل صباح، كنت لا أذهب إلى عملي، إلا بعد أن أتناول الإفطار معها، أقبل رأسها ويديها، وفي كل مساء، لا أنام حتى أعرف أنها قد نامت.
وعندما مرضت، كاد عقلي أن يطير من بين جوانحي. عشت كآبة وألمًا شديدين، حتى كتب الله لها الشفاء.
كانت أمي تضع رأسي في حجرها، حتى وأنا كبير في السن، فأشعر بأن الرحمة والحنان والحب، قد انصبوا عليَّ صبًّا…
لقد علمتني أمي الأدب والخُلق وحسن التعامل، علمتي الكرم والشهامة والقيام بالواجبات الاجتماعية، علمتني حب الناس، والإحسان إلى الجار…
أمي لم تفارقني في إقامتي وسفري، أخذتها معي في كل أسفاري، كانت معي في: (تونس، القاهرة، بيروت، الجزائر، المغرب، بريطانيا، إسبانيا، فرنسا، أمريكا، جنوب أفريقيا، المدينة المنورة، ينبع، جدة، الطائف، وغيرها).
وعندما رحلتْ من الدنيا، بقيتُ حتى يومنا هذا أشعر باليتم والوحدة والألم. لقد مرَّ على رحيلها (15) عامًا، ولازالت عيناي تذرف الدموع، بل إن قلبي هو من يبكي، ويعتصر ألمًا على فراقها.
أمي ذاك الملاك الطاهر، الذي كان يُنير قلبي ورحي قبل أن يُنير منزلنا، لقد كانت رحمتها ترفرف فوقنا وحولنا.
لقد رحلت الغالية الحبيبة، وتركتني مع آلامي وأحزاني.
عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، أخذني أبي معه في رحلة طويلة، شملت لبنان وتونس والجزائر، فشعرت بأن من رحل هو جسدي، بينما قلبي وفكري وعواطفي كانت هناك مع أمي.
وعندما كنا نتعشى في منزل خالتي في تونس، إذا بالمذياع يصدح بأغنية لأم كلثوم، التي تقول كلماتها: (بعيد عنك حياتي عذاب) فإذا بي أدخل في دوامة من الحزن والبكاء والنحيب، وتركت العشاء، حتى أبكيت من حولي…. لقد كانت أم كلثوم تقصدني بكلماتها، وتذكرني بأمي.
لقد افتقدتك يا أمي، يا حبيبة قلبي…
ابنك أصبح يتيمًا حتى وهو في السبعين من عمره.
لقد كتبت رواية تحكي قصتك، أسميتها (فتاة من تونس). كتبتها بدموعي وليس بقلمي، كتبتها من مداد قلبي وريشة فؤادي.
واليوم وفي هذا الشهر الفضيل وهذا البلد المبارك، أرفع يدي لأدعو لك بالرحمة والمغفرة، وأن يجعل الله الفردوس الأعلى من الجنة مسكنك ومأواك، وأن ألحق بك، لنجتمع معًا بوالدي، وبالحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
قريبًا سنلتقي يا أغلى حبيبة، وأعظم أم.
0