لقد اصطفى الخالق -سبحانه وتعالى- بعض البشر بأن أودع فيهم قدرات وإمكانات تُميزهم عن غيرهم من الناس، وزودهم بطاقات تجعلهم يبدعون ويتميزون في أكثر من مجال، وقد جعل الله ذلك التفاوت في قدرات البشر من سنن الحياة، فنجد التفاضل في المال، والعلم، والأخلاق، وفي سائر أحوال الناس، وصدق شاعر النيل “حافظ” حين قال:
فإذا رزقت خليقة محمودة …فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا علم…وذاك مكارم الأخلاق
ولا تصقل هذه المواهب إلا بعوامل متعددة منها: البيئة الصالحة، والدعم، والتعليم، والعناية، والتدريب، ولا شك في أن رعاية المواهب هي مهمة المجتمع بالدرجة الأولى؛ وذلك بتوفير الوسائل اللازمة لتنمية المواهب من بيئة مدرسية مشجعة، ومناهج، ومعلمين أكفاء، ولكنها تبدأ أولًا بالأسرة الصالحة التي تكتشف وتهتم وترعى أبناءها الموهوبين منذ نعومة أظفارهم.
إن فئة الموهوبين تعتبر ثروة وطنية، وكنزًا لا ينضب، فالمنافسة بين الدول في وقتنا الحاضر ليست بالثروات الطبيعية من نفط وغاز ومعادن وغيرها وإن كانت مهمة، بل أصبحت المنافسة على الفكر، والعلم، والإبداع والتميز، وأصبح الاعتماد في نهضة البلاد على الثروة البشرية، وأهم ما فيها هم المتفوقون والموهوبون، فهم مستقبل الأمة وقادتها.
إن الحضارة الإسلامية لم يغب عنها هذا الأسلوب التربوي الحضاري، فقد كان العلم والبحث والتميز سائدًا في الدولة الإسلامية، وما اهتمام الخلفاء والملوك والأمراء بإنفاق الأموال الطائلة على طلاب العلم والعلماء وتشجيعهم إلا دليل على ذلك الاهتمام.
فقد شهد زمن المأمون بن هارون الرشيد على سبيل المثال تألقًا عظيمًا في الموهبة والحضارة وصناعتها، فقد كان يعطي المترجمين والمؤلفين أوزان كتبهم ذهبًا.
ولقد كان رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- رائدًا في هذا المجال، فقد كانت فكرة البحث عن النوابغ والموهوبين وتوظيفهم والاستفادة منهم تشغل باله -بأبي هو وأمي- في دعوته لأصحابه -رضي الله عنهم أجمعين-، فكان أبو بكر الصديق دليله إلى القبائل ورؤسائها في مواسم الحج حين كان يعرض عليهم دعوته أول مرة، ويختار بلال للآذان؛ لأنه أندى صوتًا من غيره من الصحابة، ويختار كتاب الوحي، وينزل عند رأي الحباب بن المنذر في غزوة بدر، وينتدب نعيمًا بن مسعود؛ لتفريق الأحزاب عن المدينة لما له من علاقات جيدة معهم قبل إسلامه، وكذلك عند اختياره للعمليات العسكرية، وقع الاختيار على ابن عمه علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وأسامة بن زيد، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وينتدب للسفارة مصعب بن عمير في المدينة ليدعوهم إلى الإسلام، ويبعث عثمان بن عفان إلى مكة في غزوة الحديبية، وكذلك تَعَجْبُه بشاعرية حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة، فيأمرهما بهجاء كفار قريش أعداء الإسلام، وقد كان أعلم بمواهب الصحابة وقدراتهم حين يقول: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُها في دين الله عمر، وأصدقها حياءً عُثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله -عز وجل- أُبيّ بن كعب، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح”.
0