مازال القطاع الوقفي جالسًا في دكة الاحتياط في ملعب الاقتصاديات التنموية الوطنية منتظرًا الفرصة للمشاركة كلاعب اقتصادي أساسي ومهم واستراتيجي.. كيف لا وهو يمتلك أضخم الأصول الاقتصادية الرأسمالية التي قد تصل إلى مئات المليارات، ويمتلك فرصًا واعدة للاستدامة التنموية المالية على صعيد المؤسسات والأفراد، ولكنه للأسف واقعٌ بين أزمتين استراتيجيتين مقيدتين لحركته وهما:
1- موروث مؤسسي وفكري أثر على بناء التصورات الصحية التشريعية والاقتصادية عليه.
2- تنازع النطاقات والاختصاصات والمرجعيات الإشرافية والرقابية والتنظيمية والتشريعية عليه.
هذا كله في ظل افتقار بعض المؤسسات القيادية بالقطاع الوقفي ذات التأثير لروح العزم والحزم والابتكار والتجديد؛ مما جعل مصيره مشاعًا ومعرضًا لكل حالات استدامة الانغلاق والتقادم والهدر.
لذلك أشارككم رؤيتي في هذا المقال حول إمكانية التحول الاستراتيجي التدرجي للقطاع الوقفي في السعودية (كـقطاع شبه خاص)؛ نظرًا لطبيعته الفريدة التي تجمع بين الخصائص الخيرية والتجارية ما بين مبادئ القطاع العام ومبادئ القطاع الخاص بل سيكون القطاع شبه الخاص مظلة تحتوي كل النماذج الاقتصادية الشبيهة بالأوقاف كالجمعيات التعاونية، وما في حكمها من اقتصاديات القطاع غير الربحي التي تُعاني من انخناقات اقتصادية في نماذج النمو والتوسع والحوكمة لعملها قد تصل بالأصول الوقفية لحالة من الفقد والهدر والضياع مع الوقت.
وانطلاقًا من تميز الوقف في مفهومه بقدرته على تحقيق الاستدامة المالية من خلال استثمارات مدروسة، مع الحفاظ على الأهداف الاجتماعية والدينية للأوقاف لولا افتقاد القطاع الوقفي لنموذج عمل تشريعي اقتصادي ومالي ومحاسبي، يتحمل ويتكيف وينسجم مع الأدوات والقنوات والممارسات الاقتصادية والمالية والمحاسبية، أضف إلى ذلك التحديات التشريعية والتنظيمية والمالية التي يصطدم بجدارها القطاع الوقفي والمتمثلة على سبيل المثال لا الحصر الآتي:
1- صعوبة حصول الأوقاف ذات الأصول المليارية على فرص تمويلية طبيعية مشجعة ومحفزة دون اللجوء إلى التواءات مالية، واقتصادية مرهقة ومكلفة وغير صحية استراتيجيًا على صعيد الاقتصاد الوطني؛ مما يجعل طرفي عملية التمويل ما بين جمود تطوير (تحبيس الأصول)، والتي يمكن معالجتها بما يتوافق مع المقاصد الشرعية وتحقق رغبة الواقف، وبين جمود تطوير (التمويل) برهن الأصول المحبوسة والتي يمكن معالجتها بما يتوافق مع المقاصد الاقتصادية للجهات الممولة، وما نسمعه ونراه اليوم من محاولات في هذا الصعيد قد لا تنجح بسبب غياب البنية التحتية الصحية الوقفية على الصعيد التشريعي والتنظيمي والاقتصادي.
2- عدم استيعاب (نظام الشركات غير الربحية) لمنظومة الوقف في حالة رغب الوقف في التحول إلى شركة غير ربحية؛ وذلك في مسألة منع انتفاع المؤسسين من أرباح الشركة إلا في حدود ضيقة جدًّا، وبنسبة لا تذكر ولا تحقق رغبة الواقف في الوقف الذري لذلك نجد النظام حينها غفل عن فرصة تطبيقه لمبدأ (الوقف الذري) في هذه المسألة، بل نشأ التواءَ تنظيميًا كمخرج للوقف قد يكون غير مقصود لدى المُنَظِم وهو السماح أن تصرف الأرباح على المصارف الخيرية، والتي قد يكون منها (الوقف الذري) كمخرج فلماذا هذا المسار المنهك، فالحاجة الآن ماسة إلى تطوير وتقنين وتحسين بسيط ولكن عالي التأثير والأثر في نظام الشركات غير الربحية أو الربحية حتى ليشمل معالجات فاعلة للاقتصاديات الوقفية أو إنتاج نظام جديد مخصصًا (كـنظام خاص للشركات الوقفية).
3- لماذا لا ندرك اليوم أن بناء نماذج تشريعية منطقية وناضجة وشاملة تخدم القطاع الوقفي في نطاقه الكبير والذي يمثله (الوقف الذري) من الأهمية بمكان، والذي يخدم ويتسق وينسجم مع الرؤية الوطنية الميمونة 2030 والسياسات العامة الاقتصادية للدولة في مجال يجمع الادخار والاستثمار للأفراد في نموذج اقتصادي واحد فريد ومتين ومستدام وهو (الوقف الذري).
4- غياب التصورات المنطقية المرنة عن إمكانية تطوير مجالس النظارة إلى مجالس إدارة وفق نموذج الشركات الربحية مع ميزة توفر الحماية المستدامة لعضوية ممثلي الوقف الأصليين (الموقوف لأجلهم) بسبب التحبيس المستدام للأصول، والذي يستحيل انفكاكهم عن الوقف، وكذلك في عضوية ممثلي الوقف غير الأصليين (غير الموقوف لهم) ويعبر عنهم (بالمستقلين) لضمان الرقابة مع وجود لجان التدقيق الداخلية والحوكمة اللازمة من الجهة المرجعية النظامية، والتي قد تكون وزارة التجارة.
لذلك نجد ما يدور اليوم في أروقة القطاع الوقفي من مداولات ومحاولات للمعالجة والتحسين والمواكبة والنمو شبيه بتلك التي كانت في مرحلة قديمة بأسلمة الأدوات والمنتجات الاقتصادية والمالية في المصارف التقليدية، ونتج عنها اليوم ما نشهده من تطورات في الأدوات والقنوات والنماذج الاقتصادية مما يسهم في تعزيز كفاءة تنافسية الاقتصاد الوطني محليًا ودوليًا.
أخيرًا…قد نجد الحل للقطاع الوقفي الذي يُمَثِّل في وطننا نموذجًا فريدًا للتكامل بين القيم الدينية والأهداف التنموية؛ وذلك من خلال تبني رؤية جديدة تَعتبر الأوقاف كقطاع شبه خاص حينها يمكن للوطن أن يحقق قفزات نوعية في مجال التنمية المستدامة والاستثمار الاجتماعي الأمثل محليًا وعالميًا والريادة الوقفية؛ بالإضافة لاستقطاب اقتصاديات وقفية إسلامية عالمية لتسهم في الاقتصاديات الوطنية.
هذه دعوة خاصة وصادقة موجهة لمجتمع أعمال القطاع الوقفي لتحفيز وتمكين مبدأ التفكير والعمل الجاد والناضج والتكاملي لبناء نموذج العمل الاستراتيجي والتشغيلي والمالي الاقتصادي والاجتماعي للقطاع الوقفي عبر دراسة جادة لتمكين الأفكار الصحية، ومنها ما طرحته في هذا المقال شريطة إعمال التفكير الاستراتيجي والتحرر من موروث قيود العادات المؤسسية الوقفية القديمة للخروج برؤية مستقبلية تجمع بين الأصالة والمعاصرة الشرعية الاقتصادية في نظرتها وتحليلها للمستجدات، وبما يتسق مع المقاصدية العليا للفلسفة الوقفية الإسلامية التنموية.
هذا والله الموفق وهو من وراء القصد،،،