لو قلنا ما معنى التضحية وكنهها؟
لكان ردنا: الأم، ولو سألنا: ما شرح الحب النقي وخلاصة شهده؟
لعنينا الأم، ولو تحدثنا عن ذروة الصنيع الإنساني من شخص لآخر؛ لكان فعل الأم مع ذريتها، ولو لخصنا معاني الأمن والطمأنينة والسكن في الحياة الدنيا لحازت الأم أكملها، وطن ليس كمثله، تنتمي إليه مفاخرًا وفخورًا.
اتفقت الأديان السماوية على مكانة الأم، وبالذات شريعتنا المحمدية التي وهبت تاج التفرد للأم حبًّا وكرامة وبرًّا.
بل أجمعت المذاهب الوضعية والنظم القيمية في جميع المجتمعات على هذا الكوكب على تعظيم الأم وتكريمها مع الاختلاف والتباين في درجة ذاك التكريم.
(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان: 15) تعني الديمومة و”من أحق الناس” بحسن صحابتي؟ فقالها ثلاثًا: أمك “تشير لأمرين: ثلاثية الأهمية فالنسبة الأكبر والسهم الأوفر هو للأم، والأمر الآخر يشير للاستمرارية، فالمصاحبة والصحبة تعني الاقتران والالتصاق؛ وهذا يسوق لمفهوم الأمومة في هذا الدين، إذ إن البر للأم يعني أن تحملها وتحلق بها بين فضاءات الحبور وسماوات الرضا، وهذا لا يتحقق باقتصاره على يوم ولا أسبوع ولا حتى شهر، بل يقتضي أن يكون الابن أو الابنة ظلًا ظليلًا وسحابة ماطرة طوال العام”.
ومع هذا لا بأس أن يخصص يومًا لزيادة ودق وإضافة نسمة عليلة تفرح قلب الأم وتفاجئها بعبق زهر وقنينة عطر وفجاءة فرح، لا غضاضة في ذلك على ألا نعد ذلك عيدًا، فالأعياد في ديننا مقننة ومحددة، بل هو يوم تكريم كاحتفاليات مماثلة للشجرة والعلم والصداقة وغيرها.
لكن هي غصة في القلب إن اكتفى أحدهم بهذا اليوم ليمثل دور الابن البار، فهذا لا يليق وليس هو المطلوب، بل البارّ يقدم ويغدق طوال الشهور؛ فإذا جاء يوم الأم زاد وأفاض وأمطر حتى تسيل عروقها فرحًا ونشوة.
وعن غاليتي..فقد رحلت عن الدنيا قبل عقود من زمن، وفرغت الدنيا من كنف يختصر الأمن والدفء والسكينة.
غادرت أمي في محطة باكرة وهي بين يدي وحدنا، وظل قلبي حبيسًا لتلك المحطة،
كيف أنّت احتضارًا، وكيف احتملتُ لحظة المرور لها بين الدار الأولى وبرزخها، حين تعطلت كل المشاعر واللغات والأفكار، وبقي صوت نشيجها ووجهها المسافر يتسرب لوريدي سمًّا زعافًا يوجع ولا يقتل.
جعلها الله في وسع قصر وغسلها الله بماء وبرد.
عن أمي أدندن:
تجلى اليتمُ في همي..
وطارَ القلبُ أحزانا
وعاد الليلُ يجذبني..
لوجدِ الشوقِ تِحنانا
أمِن ذكراكِ يا أمي..
يصيرُ القلبُ نشوانا
حديثٌ كان يجمعنا..
وأنسُ الوقت يغشانا
وكنا كالرفاقِ معا..
ووقتي بالسّنا زانا
ينوحُ الصوتُ مشتاقا..
فينشدُ من دمي دانة
تعالَيْ..واجلسي أمي..
نسامرُ بعضنا الآنا
ألوذُ بكلّي في صدرٍ..
رحيب الحضنِ ريّانا
أشمُّ العطرَ في عبقٍ..
دفءَ الروحِ أوطانا