كثيرة هي الخصال الحميدة التي وجدتها في هؤلاء الناس الذين قضيت أربع سنوات من عمري معهم بغرض الحصول على الدكتوراة، فكان كل واحد منهم نعم الرفيق في الطريق، دعاء الوالدة -حفظها الله-: “الله يجعل لك رفيقًا في كل طريق”، استجاب الله لدعائها.. وقد كان!
وجدتهم يعتزون بلغتهم، يحبونها ويعلمونها لأبنائهم على الرغم من أن اللغة الرسمية هي الإنجليزية، أذكر عندما كنت في ويلز، إذا صادف ونطقت جملة بالولشية مع الجيران أرى في وجوههم الفرحة، أذكر أحد جيراني في الحي، عندما أقابله صباحًا وأنا في طريقي لتوصيل الأبناء للمدرسة أقول له صباح الخير بلغته الولشية، فيرد: “نعم هكذا، كلمنا بلغتنا سيد عساس، لا تكلمنا بالإنجليزي”.
ومن حرصهم على لغتهم؛ فإن رياض الأطفال في القرية، لا تدرس إلا اللغة الولشية، ولم تكن في المدينة سوى روضة أطفال واحدة تدرس باللغة الإنجليزية.
ومن الصفات الجميلة عندهم التماسك الأسري، فقد كان ابن صاحب المنزل الذي أقطنه يعمل محضرًا للمختبر في الكلية، كان يعيش مع والديه المسنين، حدثني غير مرة عن حبه لهم، وأنه رفض الزواج ليتفرغ لخدمتهم.
ومن السمات الجميلة للأسر الولشية أنهم أسر منتجة، فترى رجالهم يعملون في الزراعة وتربية الماشية، لأن طبيعة أرضهم خضراء مع وجود كميات كبيرة من مياه الأمطار أدى لكثرة المزارع في المنطقة، أما عن نسائهم فيعملن في الغزل والتطريز، فمن النادر أن تجد سيدة خاصة الكبار في السن إلا ومغزلها في يدها.
ومن أهم منتجات المنطقة العسل، لوفرة الغابات المليئة بالزهور المختلفة، فتجد مناحل العسل تنتشر في المنطقة، حتى غدت منطقة ويلز منجمًا للعسل البريطاني، وهناك في بحيرة “بالا” بالقُرب من مدينة “بانجر” في شمال ويلز يوجد مصنع لعمل الآيس كريم بالعسل، وكان مقصدًا للزوار يأتونه من أماكن مختلفة.
أذكر أن “أم مشرف” اشتكت يومًا لواحدة من صديقاتها في القرية من وفرة الحليب الفائض عن حاجتنا، فشرحت لها تلك الصديقة الولشية الطريقة التي يمكن بها الاستفادة من الحليب الفائض وتحويله إلى لبن أو قطع من الجبن والقشطة، وزودتها بالخميرة التي توضع على الحليب بعد غليه لدرجة حرارة معينة، وتركه فترة من الزمن، وبعدها يتحوَّل إلى جبن أو لبن.
يمكن اختصار حياتهم بأنها أشبه ما تكون بحياة البدو ممن لم ينغمسوا في المدنية، من أجل ذلك يجد الشخص المتعامل معهم الكثير من المواقف المليئة بالحكمة والصدق. فكانوا نعم الجيران فلم أجد منهم إلا كل دعم ومساعدة، وهناك الكثير من المواقف النبيلة التي قاموا بها، سأذكر واحدةً منها؛ في إحدى الليالي وأنا في الجامعة تعرض أحد أبنائي لنزلة برد شديدة كادت أن تودي بحياته لولا لطف الله أولًا ثم مساعدة إحدى صديقات “أم مشرف” التي ما أن علمت بالأمر إلا وأخذتها مع الابن إلى المستشفى وتركت زوجها مع بقية أبنائي في المنزل، وبعدها اتصلت بمكتبي في الجامعة، وكان الوقت متأخرًا وأخبرتني بالأمر، وذهبت للمستشفى وشكرتها على ما قامت به.
0