إن الآلاف من المبتعثين السعوديين في الخارج هم في الواقع بمثابة سفراء لبلادهم، البلاد التي تحتضن الحرمين الشريفين، ومن ثم فإن واجبهم السلوكي والأخلاقي كبير.
وجدت من تجربتي في الابتعاث أن المجتمع الغربي لا يهمه ما في الدين الإسلامي من قيم ومثل حميدة، بل بما يراه من سلوك الذين ينتسبون لهذا الدين العظيم.
معروف عن سكان “ويلز” أنهم لا يرتاحون للغريب حتى لو كان من بلد أوروبي، فكيف إذا كان عربيًا، ولكن هذه الطبيعة المنطوية زالت بسبب تعاملي وسلوكي الحسن معهم؛ لا يزال في ذاكرتي قبل الابتعاث بأشهر، كنت في مناسبة تواجد فيها الشيخ/ محمد السبيل إمام وخطيب المسجد الحرام، ذكرت له -يرحمه الله- أني على وشك الارتحال لطلب العلم، فقال لي: “كُن حسن التعامل واعكس صورة جيدة عن بلدك وأهلك ودينك”.
كنت حريصًا أثناء إقامتي بينهم أن أتعامل معهم بلطف وخُلق كريم، شهريًا كنت أقيم ما يشبه بحفلة شواء؛ خاصة في إجازة نهاية الأسبوع المشمسة، أشوي اللحم تُساعدني في ذلك “أم مشرف” وأوزعه على بعض جيراني في القرية.
كنت أزورهم مع “أم مشرف” والأبناء في أفراحهم وأتراحهم ومناسباتهم الدينية مع بعض الهدايا الرمزية التي نُقدمها لهم، وبدورهم كانوا يردون الزيارة لنا، ويقدمون الهدايا لأطفالنا في أعيادنا الدينية كعيد الفطر والأضحى.
أذكر أنني اضطررت لترك مركبتي في الموقف المخصص لجاري في السكن لعلمي بأنه رجل مُسن لا يملك مركبةً، وهو جندي شارك في حرب قناة السويس في الخمسينيات، وكان ذلك في الأسبوع الأوَّل من إقامتي في المنزل، طرق على باب منزلي في ساعة متأخرة محتجًا، اعتذرت منه وقمت بإيقافها في المكان المخصص، وبعد أن رأى تعاملي الحسن معه، طرق بابي مرة أخرى قائلًا: “يمكنك أن توقف مركبتك أمام منزلي وأنا متأسف على ما بدر مني”.
في إجازة أعياد الميلاد تكون عادة المدينة الجامعية شبه خالية؛ لأن أغلب سكانها من الطلاب الأجانب الذين يفضلون قضاء إجازاتهم في لندن أو في بلدانهم، أذكر أنني ذهبت إلى محطة القطار أنا والعائلة للذهاب إلى لندن، ولم أكن على علم أن محطة القطار تكون مغلقة في أعياد الميلاد، لقلة أعداد المسافرين، فكان عليَّ السفر لأقرب مدينة لإكمال رحلتي إلى لندن، فهاتفت صاحبة المنزل ولم يمضِ وقت إلا وشقيقها بمركبته جاء إلى المحطة، وقام بإيصالي لأقرب مدينة بها محطة قطار تعمل، وكانت تبعد حوالي 30 ميلًا، وبدون مقابل مادي.
لست أذكر هذا تمدحًا أو تفاخرًا، وإنما قصدت منه العبرة والدرس، فمبتعثي المملكة يملؤون العالم، وعلى كل واحد منهم أن يُدرك هذه المسؤولية العُظمى، وأن يترك وراءه الانطباع الحسن.
بحمد الله وفضله أثمرت هذه المعاملة الحسنة معهم، لقد أحبني أولئك الناس، وقويت علاقتي وأسرتي بهم، لدرجة أن كثيرًا منهم، كان حزينًا يوم تخرجي ومغادرتي لديارهم.
0