المقالات

الارتحال في طلب العلم…. لقاء العالم (ديفيد لندلي)

كان أول لقائي بمشرفتي في جامعة ويلز جيدًا، وفيه الكثير من اللطف، كما لو أني أعرفها منذ زمن بعيد، في اللقاء عددت العلماء الذين أثروا البشرية، والذين تدرسوا في الجامعة ومازالت صورهم مثبتة في لوحة الشرف في المدخل الرئيسي للكلية، من أمثال البروفيسور “جون باستر فيلد” أستاذ مراقبة الجودة، وأستاذها عالم القرن وأبو الإحصاء اللامعلمي “ديفيد لندلي”، والبروفيسور “مايك موريس” أستاذ الرياضيات.
لا تزال عبارتها الشهيرة التي قالتها لي، وكانت بمثابة دعم معنوي في تلك المرحلة: “بكري الآلاف حصلوا على الدكتوراة قبلك، ومثلهم سيحصلون عليها بعدك، فلا تنزعج الأمر يحتاج إلى اجتهاد وعمل متواصل”.
دعتني إلى مكتبها المتواضع في الدور الثالث من المبنى، وأخذت تتكلم عن رحلتها العلمية، وكانت تفخر بأنها تتلمذت تحت إشراف العالم “ديفيد لندلي” في بداية الستينيات، وتحدثت عن عبقرية ذلك العالم في مجال الإحصاء اللامعلمي، وهو الذي لم يحصل على الدكتوراة، ذكرت أنه يعيش في قرية “ماين هيد” في الجنوب البريطاني ، ويعمل أستاذًا زائرًا وهو في السادسة والثمانين من العمر.
أبديت لها رغبتي بزيارة هذا العالم، أبدت استعدادها لتسهيل الزيارة، أذكر أنها اشترطت على عدم سؤاله عن السبب الذي حال دون حصوله على الدكتوراة، وعللت ذلك بأن هذا السؤال يُزعجه! طمأنتها بأني لن أتطرق لذلك أبدًا.. أبدًا.
بالفعل زرته مع “أم مشرف والأبناء” في منزله الريفي على تلة جميلة تطل على البحر، شخصية متواضعة لأبعد الحدود، له لحية طويلة، قصير القامة، يعيش مع زوجته “ماجن”، والتي تصغره بسنتين، والتي تولت استقبال أم مشرف وصحبتها إلى حديقة المنزل مع الأبناء “مشرف” و”مازن” لتناول الشاي و”البودينج”، وهي نوع من الحلوى الإنجليزية تؤخذ مع الشاي عادة في الفترة المسائية.
عندما عرفته بنفسي ذكر لي أن مشرفتي سبقتني خلال مهاتفتها له، فبادرته بالقول: “أهلًا دكتور ديفيد، ابتسم وقال أنا ليس لدي شهادة دكتوراة، فقلت له لماذا لم تحصل عليها، عندها تغيرت ملامحه”، غاب عن ذاكرتي من هول الشخصية التي أمامي الشرط الذي اشترطته عليَّ المشرفة قبل اللقاء.
استمتعت خلال الزيارة بما ذكره هذا العالم الفذ من معلومات ثرية، وكيف أنه أحدث انقلابًا في مجال الإحصاء بعد النظريات التي قام بإثباتها في مجال تخصصه الجديد وقتها “الإحصاء اللامعلمي”. استمرت الزيارة لمدة ساعة ونصف تقريبًا، ودعني بعدها مع زوجته متمنيًا لي النجاح والتوفيق.
الطريف أنه قام بالاتصال بمشرفتي، طالبته في الستينيات الميلادية، وتحدث معها عن زيارتي له وأنه كان سعيدًا بها، وذكر أني سألته عن عدم حصوله على الدكتوراة.
عند عودتي للجامعة طلبت مقابلة المشرفة لاطلاعها على ما دار في اللقاء، حددت لي موعدًا في مساء اليوم نفسه، وعند بداية اللقاء، ابتسمت وقالت لماذا لم تلتزم بما ذكرته لك قبل اللقاء، فقلت لها من صدمة اللقاء مع هذه الشخصية الفذة، فقالت لا تكرر ذلك مرة أخرى، أو كما يقول المثل الشعبي المكي: “بطل اللقافة”. وكان درسًا استفدت منه كثيرًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى