في كتابه بعنوان: “الجامعات العظيمة”، ذكر عالم علم الاجتماع الأمريكي “جوناثون كول”؛ إن مهمة الجامعات العظيمة ليست تخريج متعلمين، بل علماء ومفكرين ومبتكرين ورواد أعمال.
ولا يمكن تحقيق هذه المهمة إلا بوجود أساتذة تخرجوا في جامعات عريقة، وعلى درجة عالية من الكفاءة، والخبرة الأكاديمية، ليس فقط في التدريس مع أهميته، ولكن في نشر البحوث العلمية، إنهم من يقومون بنقل خبراتهم المتراكمة للجيل الجديد من أعضاء هيئة التدريس، وبدونهم تصبح الجامعات مدارس ثانوية، أو لها عليهن درجة.
لا يزال في الذاكرة عندما جاء إلى مكتبي في كلية العلوم بجامعة عبد العزيز البروفيسور “عبد الله الهلباوي” أستاذ الإحصاء الرياضي، أستاذي في الماجستير، كنت حديث التخرج في جامعة “ويلز”، أخذ بيدي-رحمه الله- إلى المكتبة المركزية، وقام بإعطائي درس في كيفية الاستشهاد من كنوز المكتبة في عمل بحث علمي متميز.
قال كلمة لا تزال في ذاكرتي: “بكري؛ بدون الأبحاث العلمية ستبقى في بداية السلم الأكاديمي حتى بلوغك سن التقاعد”.
لذلك يُعد موظف الخدمة الجامعية من أهم الشرائح الوظيفية العاملة في مؤسسات الدولة، ويعود ذلك لأهمية النشاط الذي يتولاه، والمتمثل في التدريس، ونشر البحوث العلمية، وإعداد جيل متسلح بفنون المعرفة التي تسهم في نهضة المجتمع ورقي أفراده.
إن هجرة الأساتذة المتميزين في الجامعات بحجة بلوغهم سن التقاعد، تُعد هدرًا للعقول والكفاءات العلمية، فهم الذين يشرفون على طلاب الدراسات العليا، ولهم أبحاثهم المنشورة في أوعية نشر على درجة كبيرة من الاستشهاد؛ خاصة ومنهم من جاوز (40) سنة من الخدمة، ولا يزال عطاؤهم غير ممنون؛ لأن المجتمع في حاجة لأبحاث تواكب التحولات التي يعيشها العالم في مجالات كالطاقة، والمياه، والذكاء الاصطناعي، وغيرها.
هناك قاعدة تقول: إن البقاء للعطاء، فكلما زادت خبرة عضو هيئة التدريس زاد عطاؤه وتميزه، وعندها يجب عدم التفريط فيه، بخلاف أولئك الذين عطاؤهم محدود.
صحيفة “ذا تايمز” البريطانية نقلت عن البروفيسور “جون غوديناف”، أكبر الفائزين سنًا بجائزة نوبل لحصوله عليها وهو في سن (97) عامًا، قوله: “إنه لا يزال يعمل في جامعة تكساس بمدينة أوستن الأمريكية، بعد مغادرته جامعة أكسفورد قبل (33) عامًا، لرفضها استمراره أستاذًا في قسم الكيمياء بحجة بلوغه سن التقاعد”.
وأضاف:”من الغباء جعل الناس يتقاعدون في عمر معين، والدليل أنني قضيت (33) سنة من العطاء الجيد، منذ أن أجبرت على التقاعد في جامعة أكسفورد”.
وتابع القول: “حتى إذا فقدت الموهبة في عُمر معين، فأنت ما تزال تمتلك الخبرة، التي ستنقلها للآخرين وتفيدهم بها”.
شخصيًا، كانت مشرفتي على الدكتوراة قد تجاوزت السبعين من العمر، كانت في قمة عطائها الفكري، كانت تشرف على خمسة طلاب للدكتوراة؛ إضافة إلى إلقاء المحاضرات، والمشاركة في المؤتمرات، ونشر البحوث العلمية.
هاتفتها قبل أسبوع للسؤال عن صحتها وقد تجاوزت المئة عام، ذكرت أنها لا تزال تعمل أستاذًا زائرًا، وتقوم بإلقاء محاضرة واحدة أسبوعيًا لطلاب الدراسات العليا.
إنها فرصة للجامعات الخاصة للتعاقد مع هؤلاء العقول المهاجرة، للاستفادة من خبراتهم في التدريس، والبحث العلمي؛ خاصة وأن بعض الجامعات الخاصة ليس لديها طلاب مبتعثون وأغلب أعضاء هيئة التدريس لديهم من الأخوة غير السعوديين، أو من الذين يحملون درجة الماجستير.
1
لا فض فوك معالي الأستاذ الدكتور بكري. لقد أصبت كبد الحقيقة. فكثير من الأساتذة المتقاعدين كنوز علم ومعرفة تمشي على الأرض، والإفادة من علمهم هي الأولى ولصالح الجميع بغض النظر عن السن. وخير للمجتمع أن يفيد من علومهم ومعارفهم بدل رميهم ورميها في زوايا الأهمال. فالله الله على أهل العلم يوضعون في المكان المناسب والأجدر لهم وبهم.