لِمَ جمَع اللهُ تعالى بين القرآن والصِّيام في شهر رمضان؟ بقوله:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ .. فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: ١٨٥).
ذلك لتحقيق غاياتٍ مهمَّة تُعدُّ ركائز في ديننا وحياتنا، ذكرها في آيات الصِّيام، وهي:
١- الهدى والتقوى، قال تعالى:
————————
(شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان) (البقرة: ١٨٥)
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: ١٨٣)
٢- الحمد والشكر، قال تعالى:
———————-
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ) (الكهف: ١)
(.. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: ١٨٥)
٣- الدعاء والرُّشد قال تعالى:
———————-
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: ١٨٦)
وبذا أُنزِل القرآن في هذا الشهر؛ لأنَّ فيه تعاليم ربِّنا، وفُرِض الصِّيام فيه ليفرِّغنا ويهيِّئنا لإدراك هذه التعاليم والعمل بها والثبات عليها، وكشف حالنا معها والالتزام بها، والتحسين لها والتقدُّم فيها.
إذًا هي فريضة من الله، لها غاياتها الأسمى ومرادها الأعظم بجانب الارتياح النفسي والرُّوحي، ونيل الأجر الكثير والإحساس بالفقراء والمستضعفين، فليست الغاية منها هو ترديد اللسان لآيات القرآن والتسابق لختمه بلا فهمٍ ولا تطبيقٍ ولا إحسان، ولا أداء طقوس دينية فقط حتى إذا ما انتهى الشهر انتهت معه تلك الطقوس الثقيلة حمولتها؛ وكأنها لم تكن، أفلا يكون بذلك صاحِبها من المعنيين بقوله:
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (الجمعة: ٥).
ولهذا صرَّح القرآن بتلك الغايات
مخاطبًا إيانا بصيغة (لَعلَّ):
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)؛ لأنَّ في * “لَعلَّ” معنى (التوقُّع)، فالمتوقَّع منّا والحريُّ بنا في تعبُّدنا بهذه الشعيرة الجامعة بين القرآن والصِّيام والحوافز والأجور والرُّخص، والتيسيرات والمُعينات الإلهيَّة أنْ نعمل على تحقيق تلك الغايات جميعها.
ومن ثَمَّ ألحق بـ”لعلَّ” الفعل المضارع:
لأنَّ في * “صيغته” دلالة على تكرار الحدث واستمراره كلَّ عام؛ فالمتوقَّع أيضًا كما تزيد أعمارنا يزيد إدراكنا وسعينا؛ إذ ليس للتقوى ولا الشكر ولا الرشد زمن محدد في شهرٍ واحدٍ فقط، بل هي معًا منهج دِينٍ ودنيا مستمر؛ فكرَّره لنا في كلِّ عامٍ لِمنْحنا فرصة المراجعة والتدارك واكتشاف أنفسنا وأحوالنا مع هذه الغايات؛ للتعديل والاستزادة حتى الوصول إلى الرضا بما يحقِّق لنا الفرح والمَكسَب الحقيقي الختامي بحسن العبادة والأداء لنلتزمه في جميع شعائر الله؛ هو خير ممّا نجمعه في حياتنا:
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) )يونس: ٥٨(
*وقد أُسند هذا المضارع إلى ضمير الجماعة “الواو”:
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)؛ لِتجْمعنا هذه المناسبة لغاياتها متعاونين في تحقيقها وتعظيمها داخل بيوتنا مع أطفالنا وأهلينا وخارجها بارتياحٍ وسعيٍ ولذَّةٍ وفرح، كلٌّ بما يناسبه ويستطيعه لا يخرج عن إطار مرضاته تعالى، والمرجع للاهتداء في ذلك كتابه تعالى الذي ما فرَّط من شيء؛ وما على الإنسان إلا شرح الصَّدر والإقبال والاختيار والتدبُّر والتعلُّم والدعاء لله والاستعانة به:
(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء: ٩)
(إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) (الجن: ٢،١)
متأسِّيًا بالرَّسول الأمين عليه صلوات الله وسلامه، ومتلمِّسًا طرق تحقيق تلك الغايات وخيرات هذه الأيام وليلة القدر بأن يفتح هو نوافذ قلبه ويقينه ويسلِّم جوارحه وإخلاصه لله دون شُحٍّ وإيثار للدنيا وتأجيل؛ لينفذ إليهم النور والهدى، وفي هذا فليتسابق المتسابقون:
“التقوى والشكر والرشد” لنصل إلى كلِّ خير ، ولندرك ما يمكن إدراكه.
فلا ندري أنستقبل رمضان القادم ؟!