المقالات

تذكّر.. إنها دنيا!!

في كتابه بعنوان: “حكم مختارات من عيون الشعر والأدب”، ذكر الشيخ/ محمد بن صالح الشاوي أن “أبو العلاء المعري” أحد أشهر شعراء الدولة العباسية، والذي سمى نفسه بعد اعتزاله للدنيا “رهين المحبسين”، محبس العمى ومحبس البيت، كان يجول في أحد أسواق بغداد وهو يردد هذا البيت:
كلُّ مَن لاقيتُ يَشكو دهرَه:: ليتَ شِعري هذه الدنيا لمَنْ؟!
واصفًا حال الناس في هذه الدنيا؛ ويقال: إن جارية كانت في أحد الدور سمعته، فردت عليه قائلة:
إنها لمن طلقها:: واكتفى منها بعيش وكفن
وورد في بعض الأخبار “إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء”.
كل ذلك من مصاديق قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). (سورة آل عمران: الآية 185)
سبحان الله، الكل في هذه الدنيا يشكو همه منذ خلق الله الأرض ومن عليها، فالغني يشكو، والفقير يشكو والصحيح يشكو، والمريض كذلك، ومن وهبه الله ذرية، ومن حرم منها، ومن يعمل، ومن ليس لديه عمل، الكل في هذه الدنيا يشكو.
لا يزال في الذاكرة أثناء فترة ابتعاثي لدراسة الدكتوراة بجامعة “ويلز”، كان ذلك في تسعينيات القرن الميلادي الماضي؛ كنت أثناءها أواجه بعض الصعاب، بسبب الارتحال، واختلاف نمط الحياة، وفي السكن، والدراسة، ومرض بعض الأبناء نتيجة للطقس البارد ونزول الثلوج في تلك المنطقة من بريطانيا، وكذلك من فقدان بعض الأقارب والأصدقاء في المملكة وغيرها.
التقيت وقتها بزميل عزيز من دولة عربية شقيقة، سبقني بسنوات في الدراسة بالجامعة، وقد شعر وقتها أنني في حالة من الهم والغم، ولتهدئتي بدأ يسرد لي ما يحمله شخصيًا من هموم وغموم، وجدتها أكثر بكثير مقارنة بما أحمله من هم وغم، ومع ذلك كان صابرًا شاكرًا لله محتسبًا، وختم كلامه بعبارة جميلة لا زلت أتذكرها، قال لي :”بكري تذكّر.. إنها دنيا”.
في الحياة الدنيا؛ تعب آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل إبراهيم، وأُضْجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس دراهم معدودات، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرر فيها أيوب، وقذف موسى بالفاحشة، وعيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم يقذف بأنه ولد زنا، وفُجع نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بفقد جميع أبنائه ما عدا فاطمة -رضي الله عنها-، وهم صفوة الله من خلقه وأكرم الناس مقامًا وذكرًا، كما قال تعالى: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ) (سورة ص: آية 47).
لذلك على الواحد منّا أن يرضى بما قسم الله له في هذه الدنيا، ويستذكر خطى الأنبياء وسيرتهم في تحمل الأذى وصنوف الصد عن الدعوة، من نوح -عليه السلام- إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

أ. د. بكري معتوق عساس

مدير جامعة أم القرى سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى