لعله ليس من قبيل المبالغة القول إنه على مر التاريخ القديم لا يوجد تحالف أقوى من التحالف الفارسي – اليهودي الذي ظل قائمًا على مدى ذلك التاريخ بداية من أواسط الألف الثانية ق. م.، حتى الآن بدون انقطاع تقريبًا. كما يمكننا القول أيضًا وفي نفس السياق، إنه لا يوجد مظاهر عداء حقيقي بين إيران وأمريكا. هذا ما أثبته في كتابي الصادر مؤخرًا: “لماذا تعتبر إيران عدوًا؟”.
وفي الواقع، أثبت الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل جزءًا صغيرًا من هذه الحقيقة من خلال تلك الضربة التي جرى مسبقًا تحديد موعدها، والتي استخدمت فيها أسلحة هزيلة، وهو ما اتضح من سقوط المائة طائرة إيرانية المسيرة وبضعة صواريخ قليلة التي تم إطلاقها قبل وصولها إلى أهدافها، وبما اعتبر بأنه مسرحية إيرانية لا ترقى إلى مستوى عمل عسكري حقيقي، ولو كانت الضربة مؤثرة وفعالة لاشتركت أمريكا في الدفاع فيها عن إسرائيل، لكن أمريكا رأت أن الضربة لا تستحق الرد؛ لأنها لم تسفر عن أية خسائر تذكر!.
بالطبع كل من يعرف حقيقة العلاقات الإيرانية – الإسرائيلية لن يتفاجأ بتلك الضربة، وفي كتابي “لماذا تعتبر إيران عدوًا؟” كشفت النقاب عن حقيقة تلك العلاقات، التي أكشفها في هذا المقال بالأدلة والبراهين.
يصف الصحفي الإسرائيلي “ألوف بن” حقيقة هذه العلاقات وصفًا أقرب إلى الحقيقة بقوله: “إن الخطاب العام المعروف الذي تصف فيه إسرائيل إيران بـ “النازيين الجدد”، وتبادلها إيران بوصف إسرائيل بـ “الشيطان الأصغر”، ليست إلا شعارات سياسية، وأن الطرفين أعداء فعلًا لكن ليس على شاكلة الروح القتالية القديمة “حيث يحترم الأعداء مصالح بعضهم البعض”، وهو ما يتوافق تمامًا مع رؤية نظام الملالي بقول أحد رموز هذا النظام، وهو الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني: “نتجه حيثما اتجهت مصالحنا”، وهو ما يؤكده أيضًا الباحث الأمريكي ذو الأصول الإيرانية “تريتا بارسي” في (كتابه التحالف الغادر، التعاملات السرية بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة” بقوله: إن اللوبي الإسرائيلي في أمريكا كان من أوائل الذين نصحوا الإدارة الأمريكية في بداية الثمانينيات بأن لا تأخذ التصريحات والشعارات الإيرانية المرفوعة بعين الاعتبار، لأنها ظاهرة صوتية لا تأثير لها في السياسة الإيرانية”.
ويرى الخبير الفرنسي في الشؤون الإيرانية بمعهد العلاقات الدولية والإستراتيجية الفرنسي تيري كوفيل أن علاقات إيران وإسرائيل تاريخية، مشككًا أن يكون الصراع بينهما حقيقيًا، مضيفًا أن العلاقات بين البلدين “تعد في أحسن صورها في عهد الشاه، وحتى في ظل سلطة الملالي منذ العام 1979″. وأكد كوفيل أن كل الخطط الحربية والعسكرية الإيرانية موجهة إلى جيران إيران من دول الخليج السنية، وليس لإسرائيل”.
وقاعدة المصالح التي تحكم العلاقة بين إيران وإسرائيل تلغي أي أسباب حقيقية للعداوة بينهما، فلا يوجد بينهما حدود مشتركة، أو أراضٍ متنازع عليها، ولم تنشب بينهما أي حروب لا في الماضي ولا في الحاضر، وكانت العلاقة بينهما زمن الشاه علاقة إستراتيجية. ويذكر مؤلف كتاب “إسرائيل وإيران” الصادر عن مؤسسة راند عام 2011 بأن التعاون بين إسرائيل وإيران لم ينتهِ باندلاع ثورة الخميني بالرغم من أيديولوجية الثورة التي تنص على معاداة إسرائيل، وينبغي الإشارة إلى أنه يوجد عدة قواسم مشتركة بين القوميتين الصهيونية والفارسية، من أهمها العنصرية -احتلال أراضي الغير (إيران: احتلال عربستان والجزر الإماراتية الثلاث) وإسرائيل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية والجولان ومزارع شبعا)- نظرة التعالي والتفوق على العرب- وإلى جانب بشكل مشترك الطموحات الإقليمية التي تعد مشتركًا هامًا بين الجانبين، حيث يسعى كلٌّ من الإيرانيين والإسرائيليين إلى أن يكون كل منهما لاعبًا إقليميًا هامًا. ويعزو البعض الخلافات التي تنشب بين إيران وإسرائيل بين الحين والآخر إلى المنافسة بينهما على تقاسم النفوذ في المنطقة، وفيما كانت ترفع إيران الشعارات المعادية لإسرائيل وأمريكا (الشيطان الأصغر والشيطان الأكبر)، كانت تتلقى شحنات الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية خلال حربها مع العراق، والتي قُدرت بـ 500 مليون دولار في الفترة بين 1981 و1983وفق ما ذكره معهد جيف للدراسات الإستراتيجية في جامعة تل أبيب، وقد تم دفع ذلك المبلغ عبر النفط الإيراني المقدم لإسرائيل. وإضافة إلى ذلك قامت إسرائيل بتسهيل عمليات شحن الأسلحة من الولايات المتحدة إلى إيران فيما عُرف بـ “فضيحة إيران كونترا”، أو “إيران جيت”.
ومن مظاهر الغزل الإيراني – الإسرائيلي، في مارس 1988 الأحداث التي وقعت ذلك العام، الأول انسحاب الوفد الإيراني من المؤتمر الإسلامي في الأردن، وبما يعني أن إيران لم يكن في نيتها المصادقة على الموقف الإسلامي الشامل بشأن الانتفاضة في الأراضي المحتلة، وقبل هذا الموقف بثمانية وأربعين ساعة كان رئيس الوزراء الإسرائيلي “إسحق شامير” قد أعرب في خطبة له عن دعمه القوي لنظام خميني، واعتبر قصف إسرائيل للمفاعل العراقي عام 1980 بأنه تلويح بالصداقة نحو الجمهورية الإيرانية الإسلامية.
من المهم هنا أن نشير إلى تصريح يوسي ألفير مستشار رابين في مقابلة تليفزيونية بعد بضعة أيام من وفاة الخميني عام 1988 إلى أن العدو الحقيقي لإسرائيل هو العراق والدول العربية الأخرى، في حين يوجد لإيران كافة الأسباب التي تجعلها صديقة لإيران، فهي تمتلك النفط، وتضم يهودًا، وهي أسباب كافية لتجديد الاتصالات مع طهران بغض النظر عن النظام الحاكم فيها.
وشهدت العلاقات الإيرانية – الإسرائيلية تحسنًا ملحوظًا في عهد الرئيس خاتمي، الذي عبر في تصريحاته عن قبول حل الدولتين، وقبول الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، ولم يشكك في حق إسرائيل في الوجود.
ورب سائل: وكيف نفسر غض واشنطن الطرف عن الهجمات المتكررة التي استهدف فيها الحوثيون (وكلاء إيران) القطع البحرية الأمريكية (على نحو ما حدث في شهر يونيو 2016 عندما قصف الحوثي البارجة الأمريكية يو إس إس – ماسون مرتين لا يفصل بينهما إلا بضعة أيام؟… وغضها الطرف عن إسقاط إيران لطائرة الاستطلاع الأمريكية من طراز “جلوبال هوك” في يونيو 2019؟ وتغاضي إيران عن اغتيالات القوات الأمريكية والموساد للعديد من قادة وعلماء إيران، إلى جانب مهاجمة المنشآت العسكرية داخل إيران نفسها، آخرها في أواخر يناير 2023 في مدينة أصفهان الإيرانية)، وأيضًا عن تغاضيها عن الغارات الإسرائيلية على مواقعها في سوريا؟ يمكن في الإجابة على هذا السؤال القول: إن لدى إيران تاريخًا من العمليات السرية، بما في ذلك الاغتيالات والهجمات بالوكالة، وقد يكون الصمت متسقًا مع سلوكها ذلك، ونحن نرى اليوم الحوثيين – وكلاء إيران- يستهدفون القطع البحرية الأمريكية بشكل خاص خلال الأشهر الثلاثة الماضية بشكل مستمر، ونرى تعرض قوات التحالف في سوريا بانتظام لهجوم من قبل القوات المدعومة من إيران. ومع ذلك، نادرًا ما ترد الولايات المتحدة عسكريًا على مثل هذه الضربات، وفي العامين الماضيين منذ تولي الرئيس بايدن منصبه، كان هناك 80 هجومًا على القوات الأمريكية في العراق وسوريا، حيث أطلقت الجماعات المدعومة من إيران أكثر من 230 قذيفة، بما في ذلك 170 صاروخًا و60 طائرة بدون طيار. إن هذه الهجمات المتبادلة لا تعني اشتعال حرب وشيكة بين إيران وكل من إسرائيل وأمريكا، بقدر ما هي محاولة لفرض نفوذ إقليمي من قبل الدول الثلاث في المنطقة، وهنا ينبغي التذكير بمخطط إيران (الهلال الشيعي)، وأن ذلك المخطط يهدف إلى استيلاء إيران على جميع الأراضي من إقليم هزارة الشيعي في أفغانستان إلى ساحل المتوسط.
من وجهة نظري أرى أن إسرائيل لن ترد على الهجوم الإيراني، وحتى لو ردت، فإن ردها سيكون ناعمًا.