يمسك بيده دلة القهوة وأمامه دلال الشاهي وصحون التمر ويُنادي المصلين والمعتكفين من جماعة المسجد: “تقهوى، القهوة، خذوا من التمر” ثم يرفع ويمد صوته ويقول: “كَسّبُوا صاحبها الأجر”.
طبعًا يقصد نفسه ويسوّق لبضاعته طمعًا في رضوان الله ورجاء مغفرته، كان هذا المشهد -الحق- الذي احتفظت به الذاكرة، واحتضنه القلب، ووعاه العقل، وترسخ في النفس، كان في ليلة 27 من هذا العام 1445 في شهر رمضان المبارك بين صلاة التراويح والتهجد يُباشر بالقهوة والتمر على جماعة المسجد، ويقربها منهم ويحثهم على الأخذ منها رجاء أن يُكسِبوا صاحبها الأجر ..
يا ترى من هو صاحب الدلة والتمر هذا؟
وما قصته؟
صاحبنا هو الشيخ “حسن العصيمي” من أهل الطائف، ولكن له سبب وسكن بمكة المكرمة وبجوار المسجد؛ ولذلك تجده يشارك أهل المسجد وجماعته لقاءاتهم ومعايداتهم وطبعًا قبل هذا أو ذاك صلواتهم، معروف بهدوئه وصمته وسمته وابتسامته البسيطة، غير متكلف لا في ملبسه ولا هيئته ولا في عامة شؤونه، أحسب أنه في الخامسة والخمسين أو حولها من العمر ..
عرفناه من أهل الصلاة، محافظًا على حضور الجُمع والجماعات، حريصًا على خدمة المصلين وراحتهم، وهو دليل كرمه وجوده وتواضعه، واحتسابه الأجر، وكم رأيناه بعد انتهاء صلاة الجمعة وهو يحمل التمر عند باب المسجد يوزعه ويطعم به المصلين، وهم خارجون من المسجد.
بخلاصة: صاحبنا كما ذكر بلسانه ليلة السابع والعشرين:
“كَسّبوا صاحبها الأجر”، هو حريص غاية الحرص على كسب الأجر والثواب من الله المعطي الوهاب، وتذكرني عبارته هذه: “كسبوا صاحبها الأجر” بمقولة أحد السلف عن الكلام الذي يصدر عفوًا من الإنسان أنه غالبًا ما يكون نتاجًا ما أخفاه باطنه وما تأصلت عليه حاله، قال -رحمه الله-: “ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله على فلتات لسانه وأفعاله” وصدق والله، والواقع أكبر شاهد وأقوى دليل، وصاحبنا العصيمي فيما أحسب -والله حسيبه- ممن تشبع وتمتع بحب العطاء رغبة في اكتساب الأجر ..
ومن جميل وعظيم ما علمته من أسرار العصيمي وإخلاصه في بذله أنه خصص لأحد أهل الحي ثوبين كل عيد فطر عند أحد محلات الخياطة المجاورة وطلب من صاحب المحل ألا يخبر بذلك أحدًا، وقد أخبرني بذلك ونحن نقف على قبر العصيمي نذكره بالخير، وندعو له بالرحمة والمغفرة ..
وقد جرت سنة الله في خلقه بأن الله يكرم من يكرم عباده، ويحسن إلى من يحسن إلى خلقه، ففي ليلة الثامن والعشرين من الشهر الفضيل ونحن نصلي التراويح وعند نهاية الصلاة وفي التحيات وقبل السلام بقليل سمعنا من وسط المسجد بالأخير صوت حشرجة وشهيقًا مرتفعًا أعقبه سقوط صاحب الصوت، وما هي إلا ثوانٍ وسلم الإمام وتجمع المصلون حول الرجل؛ فإذا به صاحبنا ملقى على الأرض وحوله دلة القهوة والتمر، حاول الحاضرون القيام بنجدته وقاموا بالاتصال على الإسعاف، والذي بدوره حضر ونقل صاحبنا إلى المستشفى وانفض الجمع على أنه سيكون بخير ويعود بعد الوقت اللازم من العلاج…
ولكن .. -وآهٍ من لكن-
عند اجتماعنا لصلاة التهجد أخبرنا الإمام بأن صاحبنا ومكرمنا قد جاور ربه ورحل عن دارنا فقد توفاه الله ..
رحل العصيمي صاحب القهوة والتمرة
رحل العصيمي صاحب الجمعة والجماعة
رحل العصيمي صاحب الصدقة الخفية…
غادر دنيانا الفانية، وترك لنا دلته وقهوته وتمره وذكراه الطيبة…
غادر حينا ومسجدنا وأبقى لنا سيرته العطرة..
تقرب إلى الله بالإحسان إلى خلقه؛ فأحسن الله إليه بحسن الخاتمة ترى: ماذا كان بين حسن العصيمي وبين ربه من أسرار كافأه الله عليها بخاتمة مباركة في ليلة من ليالي العشر المباركة في شهر مبارك بأرض مكة المباركة وفي بيت من بيوت الله المباركة ..
ولا تزال كلمته في الليلة التي سبقت وفاته تتردد في أذني: “كَسّبوا صاحبها الأجر، تقهوى خذ من التمر” ولا إخال جائزة مسك الختام إلّا استجابة إلهية، وعطاء رباني لعبد سعى لكسب الأجر والنوال من رب كريم مفضال، فوفاه الله حسابه وأكرمه على إحسانه.
كان أحد مشايخنا يقول: “يأبى الله تعالى أن يعامله العبد نقدًا فيجازيه نسيئة”
حقًا .. من صدق الله صدقه الله
اللهم ارحم عبدك حسن العصيمي، وأكرم نزله وارفع درجته، واغفر له وكسبه الأجر، وارزقنا اللهم برحمتك وجودك وإحسانك حسن الختام..
أبو عبد العزيز