أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي … وأسمعت كلماتي من به صمم
“يرى البعض أن هذا البيت تقريريًا” وهذا صحيح إلى حدٍ ما، لكن براعة المتنبي (مع أني لا أحبه كثيرًا/ طبعًا عارف تقولون بالطقاق) نفث الحياة في الكلام. وكيف ذلك يا علي (اللي هو أنا)؟
لننظر إلى الفعلين في البيت السابق: (نظر وسمع)
هناك نوعان من الأفعال: فعل متحرك أو به حركة، وفعل ليس به حركة action and non-action verbs
الفعل الأول (نظر) جامد ليس به حركة، لكن به حركة داخلية، والفعل الثاني (أسمعت) به حركة (لأن هناك متحدثًا)، لكن تلك الحركة جامدة للشخص الأصم، بينما هي متحركة للأعمى.
كلنا يعلم أن الأعمى لا يبصر ويحتاج إلى من يقوده لكنه يسمع الحديث، على العكس من الأصم فهو يرى ما يحدث حوله، لكنه لا يسمع الكلام. كل منهما يفتقد حاسة مهمة، فالأعمى يسمع ويذهب الكلام إلى ما يعرف بالعين الداخلية inward eye
وما هي العين الداخلية أو inward eye؟
القدرة على تحويل كلمة أو فكرة ذهنيًا إلى صورة من خلال الخيال/ The ability to picture an image mentally through imagination. Mind’s eye. Idea
وهذا ما يتميز به الأعمى بطريقته الخاصة وبقدرته المتميزة، والسؤال:
هل يتخيل الأعمى نفس ما يتخيله المبصر؟
أظن أن الجواب يكون على شقين:
– إذا كانت الإصابة بالعمى بعد سنوات من الإبصار؛ فالتخيُّل يكون قريبًا مما يتخيله المُبصر.
– أما إذا ولد الشخص وهو أعمى فهذا شأن آخر، لأنه يتخيل الأشياء (وهذا تحليلي) بطريقة تختلف تمامًا عن المبصر. هناك دراسات عن طريقة وصف الألوان للأعمى عن طريق اللمس أو الوصف، لكن هنا نحن أمام ظاهرة أخرى: رؤية الأعمى للكلمات.
في هذه الحالة يكون التخيُّل معتمدًا على (وجهة نظري) معرفة الأعمى باللغة، فهو يدرك (إلى حد ما) معاني الكلمات ويحولها إلى محسوسات تتفاوت في فهمها ومدى تأثره بها. فلو افترضنا إننا قلنا لأعمى طائرة أو سيارة، هنا يتوجب علينا أن يلمس الأعمى الطائرة والسيارة ويقرأ (طريقة برايل) أو يسمع منا وصفًا للاثنين ثم لصوت الطائرة والسيارة، لتتكون عنده صورة في العين الداخلية.
والسؤال: هل ينطبق ذلك على كل الأشياء؟
لا أظن، لأن هناك أشياء وإن تخيلها الأعمى تبقى الصورة ناقصة.
وهنا يتميز الأصم عن الأعمى، فهو لا يحتاج إلى عين داخلية، لكنه يفتقد إلى السماع: الكلمات/ الموسيقى مثلًا ليستطيع الاستمتاع بها وتذوقها، وهنا يستطيع الأعمى تمييز الأصوات، وتحويلها كما أسلفت إلى صور.
ماذا لو اجتمع أعمى وأصم في مكان واحد؟
كيف يمكن لهما التواصل مع بعضهما؟
في زمننا هذا لا توجد صعوبة؛ فهناك سماعات توضع في أذني الأصم فيستطيع سماع الأعمى، وهذا يفسد على المتنبي عجز بيته: “وأسمعت كلماتي من به صمم”، لكن الإبداع في بيت المتنبي أنه تحدث عن الاثنين في زمنه، وهنا تأتي قيمة الشعر في البيت المذكور.
اختار المتنبي متناقضين: عدم الإبصار (الرؤية)، وعدم السماع (الصمم) ليقول للقارئ إن قوة كلماتي والبُعد الثالث لها (غير المحسوس)، والذي خرج به عن المألوف، استطاعت أن تجعل من الأعمى بصيرًا فيراها، وأن صوت كلماتي (جعل الكلمة تتكلم بصوت عالٍ) نفذت إلى أذن الأصم فاستطاع سماعها.
ذلكم هو الشعر والخروج عن المألوف، ونفث الحياة في الكلمات، وأعود لقولي: إنه مع تميز المتنبي؛ فإنني لست من المعجبين به كثيرًا.
(ومن شافك ياللي في الظلام تغمز)