المقالات

من لطائف الأخبار وعجيبها!

لعلَّ من أقسى حوادث الدهر تأثيرًا على الإنسانِ أن يُغيِّبَ الموتُ أحدًا ممن يحبُّ.
فإذا تتابعَ فقدُ الأحبابِ والأقرانِ، كان ذلكَ مؤذنًا للمرء بانقضاءِ عمرِهِ، فيذَّكَّرُ حين ذاك ويعتبرُ، وصدق الله تعالى حين قال: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) – (سورة الأنبياء: الآية 34)، وصدق إذْ يقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) – (سورة العنكبوت: الآية 57).
ومن لطيف الأخبار في هذا المعنى وعجيبها ما وقعَ عند تأبينِ الشيخ الإمام محمد عبده -رحمه الله- الذي وافته المنية عام (1905م)، فقد وقف على قبره ستةٌ من الأعلامِ، يرثونه، ويعددون مناقبه، وهم بحسب ترتيبهم في الوقوف:
1- الشيخ أحمد أبو خطوة، مفتي ديوان الأوقاف.
2- حسن عاصم بك، رئيس ديوان الخديوي.
3-حسن عبد الرازق باشا الكبير، والد شيخ الأزهر مصطفى عبد الرزاق.
4- الأديب قاسم أمين؛ صاحب كتاب “تحرير المرأة”.
5- حفني بك ناصف، علم سامق في تاريخ الفكر والأدب والقضاء.
6- شاعر النيل حافظ إبراهيم.
ومن باب المصادفة فإن ترتيبهم في إلقاء قصائدهم وخطبهم هو نفسه ترتيب وفياتهم؛ فكان أولهم رثاءً أولهم وفاةً في (1906م)، ثم لحق به ثانيهم في (1907)، ثم حان أجل الثالث في (1908م)، ثم عرجت المنية على الرابع في نفس السنة (1908م).
حدث هذا كله في ثلاث سنوات متلاحقة بعد موت الإمام محمد عبده، ولم يبقَ في الميدان من الستة إلا الخامس حفني ناصف، والسادس حافظ إبراهيم.
وهنا وقر في قلب حفني ناصف أن القدر سيوافيه وأن الدّوْرَ حلّ عليه وأن منيته قد قربت على هذا الترتيب قبل حافظ ، فكتب إلى حافظ إبراهيم أبياتًا في قصيدته البائية الشهيرة التي نظمها ليطمئن بها صديقه الشاعر الكبير حافظ إبراهيم إلى أنه لن يموت إلا بعد أن يموت هو، وهو ما حدث بالفعل، جاء فيها:
أتذكر إذ كنّا على القبر ستةً … نُعدد آثار الإمام ونندبُ
وقفنا بترتيبٍ وقد دَبّ بيننا … مماتٌ على وفق الرثاء مرتبُ
أبو خطوةٍ ولّى وقَفّاه عاصمٌ … وجاء لعبد الرازق الموت يطلبُ
فلبّى وغابت بعده شمس قاسمٍ … وعما قليلٍ شمس مَحياي تغربُ
فلا تخش هلكًا ما حييتُ فإن أمُت … فما أنت إلا خائفٌ تترقبُ
فلم يلبث حفني ناصف أن مات بعد سنواتٍ في (1919م)! ولم يكن عجيبًا أن ينتظر حافظ الموت بعد ذلك، فرثى نفسه قائلًا:
آذَنت شمس حياتي بمغيبِ … ودنا المنهل يا نفس فطيبي
قد مضى حفني وهذا يومنا … يتدانى فاستثيبي وأنيبي
وفيها قوله: يشير إلى قصيدة حفني ناصف:
قد وقفنا ستةً نبكي على … عالم المشرق في يوم عصيبِ
وقف الخمسة قبلي فمضوا … هكذا قبلي وإني عن قريبِ
وَرَدوا الحَوضَ تِباعًا فَقَضَوا … باتِّفاقٍ في مَناياهم عَجيب
هَدأت نيران حُزني هَدأة … وَانطوى حِفني فَعادَت لِلشُبوب
إلى آخر القصيدة وعدد أبياتها (43) بيتًا.
ثم مات شاعر النيل حافظ إبراهيم في (1932م) !
هكذا مضى الصحبُ تباعًا، واحدًا إثر واحدٍ، في ترتيبٍ عجيبٍ جرى به القدرُ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى