التحولات في حياة المجتمع السعودي:
لكل زمن ظروفه وطريقته في التنظيمات الإدارية، ففي حالة رغبة الطالب الانتقال من مدينة إلى أخرى؛ عليه أن يُثبت للمسؤول الإداري أن هناك سببًا موثقًا بشهادة وشهود، ولا يقبلون سوى القول بأن عائلتي انتقلت من الدمام إلى الطائف، والطريقة المتعارف عليها كإجراء روتيني هو أن تكتب مشهدًا بتوقيع شاهدين يُختم من قسم الشرطة، ولعلكم تتعجبون من تلك العقلية الإدارية التي وضعت هذا الشرط التعجيزي، عندما نُجبر نحن الطلاب في ظروف صعبة؛ بأن نتعلم كيف نكتب المشاهد والشهود بتلك الصيغة “المزورة” في حياتنا التعليمية، ونحن مقدمون على تربية أجيال نعلمهم قِيم الصدق والأمانة … والأدهى أن تُحشر الشرطة وأختامها في عملية نقل طالب، فتسبب له مزيدًا من العناء … كان ذلك في بداية عام 1390 هجرية عندما كنت بالصف الثاني بمعهد المعلمين في الدمام، ومقر سكني لدى أحد أقاربي بمدينة الظهران؛ حيث استجدت ظروف تحتم عليَّ الانتقال إلى مدينة الطائف.
قريبي هذا يعمل في التجارة ولديه مقهى ومطعم معروفٌ على مستوى مدينة الظهران عندما كانت المقاهي هي المتنفس الوحيد للسكان والأهم لديهم؛ مشاهدة برامج تلفزيون أرامكو لأن أغلب الأسر لا تمتلك جهاز تلفزيون منزلي … من رواد المقهى آنذاك وفي زاوية خاصة ضابط برتبة كبيرة بلباس مدني يأتي من أجل تدخين الشيشة، عرفت لاحقًا أنه رئيس مركز الشرطة، ومع أن أي ضابط وقتها له هيبة كبيرة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو محادثته، لكنني شعرت أنه لطيف وإنسان عادي جدًا عندما يلتقي مع قريبي في المقهى، وعرفت أنه من مكة المكرمة، وقد أثار انتباهي بشخصيته وملامح وجهه، وعندما يتحدث بلهجة مكية، وقد تعرفنا على اللهجة المكية من خلال مشاهدة برنامج تلفزيوني أيام الشاشة السوداء والبيضاء: (مشقاص في كفر البلاص) بطولة حسن دردير – رحمه الله -.
شاهدت الضابط ببدلته العسكرية في سوق الظهران الذي يسمى آل (شَبْره) في حي (سعودي كامب) كنت وقتها قررت الانتقال إلى الطائف، فاقتربت منه واستجمعت قواي، وتشجعت للحديث معه باعتبار أنه شاهدني عند قريبي في المقهى، ولأنه شخصية مهمة فقد اختلط عليّ الأمر كيف أحدثه، وأنا القادم أصلًا من القرية منذ أمد، وعشت في الدمام فترة طويلة بين عدة أجناس من البشر بلهجات مختلفة، فأصبحت مضطربًا تختلط عليّ الألفاظ أمام هيبة وشخصية هذا الضابط المتحضر “ذو الرتبة العالية”؛ بالإضافة إلى الآمال المحطمة أصلًا لدي بعد تسجيلي في المعهد بدلًا من الثانوية العامة، والتي أثرت على جرأتي في الحديث … كان قصدي أسأله عن إمكانية وجوده في مكتبه غدًا لتوقيع المشهد. أمام هذا الارتباك نطقت بلهجته المكية التي لا أجيدها، وبعبارة غير موفقة قلت له: (تفتحوا بكره ؟). فرَد عليّ ردًا … زاد من خجلي وارتباكي … عندما قال: (إش .. تفتحوا ؟ .. هيا .. بقاله .. وإلا .. إيه !) فأوصلت له المعلومة التي أريدها بصعوبة من أجل توقيع المشهد .. فقال: (تجي بكره ويكون خير).
الخطأ الثاني الذي ارتكبته مع الضابط؛ هو كتابة المشهد في ورقة هزيلة استقطعتها من أحد دفاتري، شكلها غير منظم، مدونٌ بها المشهد المطلوب بتوقيع طباخ المطعم وأحد الزبائن. لم يكن لدي رغبة في معرفة قريبي بمسألة الانتقال إلى الطائف حتى لا يُشوش على فكرتي ووجهتي … قابلت الضابط مرة أخرى في مكتبه الرسمي بعد أن زال كثير من التوتر لدي، لكن كتابتي للمشهد في الورقة الهزيلة سببت ردة فعل أخرى من الضابط عندما لمحها ورد عليّ بلهجته المكية: (إيش .. هادا ؟ .. هادي … ورقه ؟)، وكان المفترض أن نكتب المشهد في ورقة مسطّرة تسمى (فرخ ورق) خاص بالطلبات. ولحرجي من الموقف ومقابلته مرة أخرى؛ انسحبت وكتبت المشهد من جديد كما ينبغي، ورفعت الحرج بيني وبين قريبي وطلبت منه استكمال توقيعه وختمه من صاحبه ضابط الشرطة، فلم يعد لدي الشجاعة الكافية للوقوف أمامه مرة ثالثة.
وبحصولي على تلك الورقة بدأت معالم “الساحل الشرقي” تختفي من سجل حياتي؛ فأدرت لها ظهري لأجلٍ لا أعلمه، والنفس لا تخلو من غصة وآلام وأحلام … لقد أصبحت حاسة الاستشعار وبوصلة الاتجاه تؤشِّران على الطائف … (للحديث بقية).