المقالات

ورقات من معهد المعلمين (2)

التحولات في حياة المجتمع السعودي

“الطائف” عمومًا والمعهد بما فيه من معطيات وحياة جديدة؛ وجدتها متغيرة عمَّا كنت عليه في مدينة الدمام، لهذا انسحب تفكيري مؤقتًا وانشغل برصد ما كان جديدًا عليَّ في الطائف … المدينة التي أحببتها واخترتها مقرًا لإقامتي بدءًا من عام 1390 هجرية. أول ما لفت نظري جمال وروعة مبنى معهد المعلمين “ذو السعة” والتصميم الخارجي الفريد من نوعه، كنت أشاهده على طرف وادي (القيْم) في أثناء مرورنا بجواره ونحن في سيارات الأجرة (البيجو) قدومًا من الدمام؛ حيث كانت فخامة المبنى عاملًا رئيسًا مشجعًا على انتقالي لإكمال الدراسة بمعهد الطائف.

غالبية الطلاب يفدون من ضواحي الطائف وجنوبًا حتى تصل إلى نجران؛ لأنه الوحيد على أيامنا الذي يغطي احتياج تلك المناطق، والالتحاق به مرغوبٌ فيه من قبل الباحثين عن استقرار مادي عاجل، لمن يلتحق به من خريجي الكفاءة المتوسطة لوجود مكافأة مجزية ومرتبة عالية ووظيفة فورية. حتى إنه سُمِّي من باب التندر (معهد رضاء الوالدين)؛ لأن خريج المعهد سرعان ما ينتشل أسرته، ويعمل على تحسين مواردها المالية وحالتها بصفة عاجلة.

تصميم المعهد يُمكنه من استيعاب أعداد كبيرة تصل إلى أربعمائة طالب، وجزء منه مخصص لمدرسة القيم الأعلى الابتدائية. ممرات المبنى واسعة وفصوله جميعها تشرف على فناء داخلي مصمم على أساس حدائق داخلية، وهناك شرفة خارجية واسعة في الدور الثاني من الجهة الغربية يخرج إليها الطلاب في الفسحة ومن الشرفة نشاهد مباشرة بساتين (القيْم) بأعنابها ورمانها على مد البصر، ومن خلفها عن بُعد جبال الهدا بمناظرها الخلابة … ومن الشرفة الجنوبية باتجاه الشارع العام معسكر ومباني سلاح الصيانة والتدريب الخاص بالجيش العربي السعودي؛ حيث تُبهرنا الحركة النشطة ومشاهد القوة، فنشعر بمزيد من الفخر والاعتزاز … خلف المعسكر يقف جبل (دِمَهْ) شامخًا يطل علينا بلونه الوردي الآخاذ. إضافة إلى تلك المناظر البديعة نجد في الجانب الغربي مساحة واسعة للألعاب الرياضية، ولإضافة معلومة موثقة عرفتها لاحقًا؛ تأكّد لي أن مبنى المعهد – حاليًا تشغله كلية التربية – الذي بدئ في تشييده عام 1385 هجرية- 1965م أعدت تصميمه هيئة اليونيسكو العالمية مساهمة منها في خدمة الدول النامية، لأننا في تلك الفترة – قبل 60 عامًا – في بداية عهد النهضة والتنمية؛ لازلنا في نظر الآخرين دولة مستحقة للمساعدة من منظمة دولية تهتم بالتربية والثقافة والعلوم، وبحمد الله تعالى تبدلت الأحوال في بلادنا إلى الأفضل في كل مجال خاصة في مجال التعليم، وأصبحت الحكومة السعودية تقدم المساعدات وبعثات الإيفاد والخبرات التعليمية لليونسكو نفسها ولكثير من الدول التي نرتبط معها بعلاقات وتعاون.

النشاط الرياضي في المعهد كان ملفتًا للنظر وعلى مستوى رائع؛ حيث تُقام مباريات مع ثانوية ثقيف ودار التوحيد في كرتي السلة والطائرة، ويشتد التنافس بتشجيع وصراخ مدهش لم أشاهده من قبل… لازال في مخليتي عدد من لاعبي المعهد نشارك في تشجيعهم إلى آخر رمق، وكأننا في حرب مع دار التوحيد وثانوية ثقيف، وفي العودة تمتلئ الحافلات بالمشجعين فنتسلق سطح الحافلة نردّد الأناشيد الحماسية، ونحن في غاية السعادة، نستعرض أهازيج من كل لون في شوارع الطائف. لعلني أسطر هنا ما أسعفتني به الذاكرة لأشهر لاعبي معهد المعلمين آنذاك… منهم الزميل “مطر صالح الغامدي”، المبدع في كرة الطائرة، و”خلف بن ختام الحارثي” عندما حقق أعلى معدل على مستوى المملكة (رمي الرمح / 42 مترًا)، و”مغرم بن ناصر القحطاني” في كرة السلة الذي يُبهر الخصوم ببراعته في التصويب من منتصف الملعب. حتى إن مشجعي دار التوحيد وثقيف يرددون عبارات لكي يثبطوا من اندفاعه (شقّ الفلينه .. يا مُغرم ….. ……)، وهو يزداد قوةً وحماسًا، لازلت حتى الآن أقدر ذلك الزميل الرياضي الفذ، ولم تختفِ من ذاكرتي نشوة الانتصار وهزيمة ثانوية ثقيف ودار التوحيد… لعل الثانويتين استعادتا هيبتهما وثأرهما في سنوات لاحقة؛ لكن لا عِلم لي بعد أن تخرجت معلمًا، وعينت في قرية نائية كئيبة منعزلة عن كل أسباب الحياة المدنية.

بالنسبة للنشاط الثقافي والمسرحي، ومع وجود مسرح صُمِّم بأعلى المواصفات ودرجة الإتقان لا مثيل له في المنطقة؛ إلا أنني كنت أشعر بالحسرة والندم لعدم الاستفادة منه في تلك السنة وما قبلها، ولم أتخيل -وأنا طالب – أي تفسير لتلك الحالة مقارنة بأنشطة خطابية ومسرحية، كان يجري تنفيذها في معهد الدمام بالفناء الخارجي تحت لهيب الشمس، وقد كان مبنى معهد الدمام آنذاك مقرًا للمدرسة الصناعية وورش التدريب تحولت إلى فصول دراسية من غير تهوية ولا تكييف. كانت أشبه بالأفران .. ومع ذلك خرجت أجيالًا من المعلمين خدموا الوطن … عدد كبير منهم أكملوا تعليمهم ويُشار إليهم بالبنان.

بالنسبة للنشاط الفني كان لدي ميول تتعلق بالخط والرسم، وأجد شيئًا من الارتياح عند مشاهدتي لصالة التربية الفنية يُعرض بها لوحات رائعة للمعلم السوداني: “الهادي آدم” ، ولمعلم فلسطيني: “حسن حلبي” كان لديه قدرات متميزة في الأشغال اليدوية والنجارة والخط، وقد شعرت بقَدر من نشوة الفرح عندما رشحني لرسم لوحة فنية اختيارية وُضعت مع مجموعة من لوحات لزملاء آخرين في مدخل المعهد مذيلة باسمي اعتبرتها بصمةً لي، أشاهدها بشكل يومي فيزداد الشعور بالسرور لطالب في سن المراهقة، وهو على وشك التخرج ليصبح معلمًا بعد أشهر قليلة.

عند قدومي إلى الطائف عام 1390 هجرية لاحظت أن أغلب أهل الطائف من ميسوري الحال مقارنة بغيرهم في مدن أخرى مررت بها…. …. (للحديث بقية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى