تلقيتُ اتصالًا ليلة البارحة 20 أبريل 2024 من صديق يُخبرني أن الأستاذ/الشيخ عبد الرحمن المعمر يرقد في المستشفى في العناية المركزة. اتصلت على مرافقه الذي أكّد لي الخبر، وتواصلت مع ابنه الأستاذ الفاضل/ بندر على الواتس وبعثت له رسالة متمنيًا له الشفاء.
تشرفنا ليلة 18 يوليو 2023 أخي خالد وأنا بالجلوس في حضرة الشيخ الأستاذ/ عبد الرحمن المعمر، في داره الكائنة في مدينة الورود بالطائف.
تلقيت اتصالًا مساء الثلاثاء 17 يوليو، وكان من الشيخ الأستاذ عبد الرحمن، وبعد التحايا، قال لي: أنا موجود في الطائف في مدينة الورود.
قلت له: يشرفني زيارتك غدًا بعد صلاة العصر.
قال: لا. تعال بعد المغرب فنحن نجتمع عادةً بعد الصلاة.
قلت له: أبشر.
وأنهى المكالمة، وقبل أن يرتد إلى طرفي تلقيت مكالمة ثانية منه وقال: تعال بعد العشاء؛ لأن بعد المغرب الوقت ضيق وإذا حان وقت صلاة العشاء ستستأذن وتغادر، وأنا أريد التحدث معك ونتناول طعام العشاء سويًا.
قلت: أبشر.
تجمعني مع الشيخ الأستاذ عبد الرحمن، صداقة تمتد لخمسين سنة ونيف، فهو صديق لوالدي -رحمه الله-وكان رئيسًا لتحرير جريدة الجزيرة في فترة الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات هجري. كان يشجعنا أنا وأخي خالد على الكتابة ويجاملنا بنشر كتاباتنا، والتي كانت (نسخ ولصق) من كتب المنفلوطي وكتاب جواهر الأدب.
عندما بدأ التنشيط السياحي في مدينة الطائف كنا نذهب رفقة والدي -رحمه الله-والشيخ الأستاذ عبد الرحمن، وأنا، إلى لقاءات جانبية على هامش فعاليات التنشيط، وكان يحضرها الشيخ عبد الله بن خميس، والشيخ محمد بن صالح بن سلطان -رحمهما الله-والأستاذ فهد بن معمر محافظ الطائف سابقًا، وآخرون من أرباب الفكر والأدب والثقافة؛ وتسنى لي التعرف على الشاعر عبد المحسن حليت، وأحمد الصالح (مسافر)، والشاعر يحي توفيق صاحب قصيدة سمراء رقي للعليل الباكي التي غنتها هيام يونس.
كان وما زال الشيخ الأستاذ عبد الرحمن المعمر يتواصل معي عندما يتواجد في الطائف، وليلة 18 يوليو كانت استثنائية. كنا في الطريق إلى منزله نسترجع ونتذكر بعضًا من مواقفه، وقال أخي خالد: إن عبد الرحمن المعمر أستاذ أجيال.
وصلنا إلى داره العامرة بعد أن أعيانا الشيخ قوقل في الوصول بسبب كثرة المداخل والمخارج وبعض التحويلات فالمدينة لم تنتهِ بعد، وساعدنا سائقه ومرافقه الأخ سعيد عمار من مصر في الوصول. كان يجلس لوحده في الصالون وبيده عكاز وعلى رأسه كوفية، ويلبس ثوبًا (نباتيًا/ لون مائل إلى الصفرة الخفيفة. كان يطلق على هذا اللون صفة نباتي ولا يعني أنه لا يأكل اللحم)، ومعه شاب تبين أنه حفيده فيصل.
استقبلنا بحرارة وأجلسنا على يساره حيث كان يجلس في بداية الصالون، وعندما همَّ فيصل بتقديم القهوة لنا، قال: اجلس حتى أتعلَـم الضيوف (أي أعرف عن أحوالهم وصحتهم) وأتحدث معهم. سألناه عن صحته فقال: حل بساحتي الكبر، وأصابني ضعف النظر. وبدأ يسألني عن صحتي، ثم عرج للحديث عن الأدب والشعر. كان (ينكشني) لأتحدث أكثر. وفهمت بعد تناول العشاء أنه لم يدعُ أحدًا لأنه كان يريد أن يستفرد بي، فهو يعلم أنني في حضرته لا أخشى من إبداء رأيي فيما يسألني عنه، فقد تعلمت منه الجرأة في الحديث وقول ما أظنه وأراه صحيحًا، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالشعر والأدب والمنتسبين إلى هذا العالم.
تحدثنا عن المتنبي وسقطاته في الشعر وتضخم الأنا عنده والفوقية والبارانويا اللتان كانتا تسيطران عليه. وكيف أن النقاد أهملوا معاصريه ومنهم الشريف الرضي والمرتضى وأبي فراس والفيلسوف الأعمى أبي العلاء المعري. كان الشيخ الأستاذ يسأل ثم يتركني أتحدث، ومداخلاته كانت وجيزة وموجزة لكنها ثرية ودسمة وعميقة تدل على تفرد في التفكير والرأي وعملقة في اختيار الوقت والكلمات والعبارات.
سألني من يعجبني من الشعراء المحدثين، فقلت البردوني (بدون أدنى تفكير)، لكنه لم يأخذ نصيبه من الضوضاء الإعلامية مثل بعض معاصريه ومنهم الجواهري ونزار.
تحدثنا مطولًا عن الشعر والنظم، وعن المجدد أبي نواس وعن بدوي الجبل وإيليا أبي ماضي، وأسباب تجاهل الكثير من الشعراء؛ لأننا نقرأ كتابات البعض عن شعراء من اختيارهم؛ فننجرف معهم ونأخذ بآرائهم دون البحث والقراءة لنتأكد بأنفسنا، واتفقنا على أننا لا نزال أمة شفهية وصوتية. ثم انتقل الحديث إلى شوقي والعقاد والقصيبي وديك الجن. كان انتقالًا عبر الأزمان، لم نلتزم بزمن محدد نسافر مرة إلى الماضي ثم نعود إلى الحاضر ونعرج على ما بينهما.
أخبرني أثناء العشاء (سليق طايفي يحبه قلبك) بقصة عن أحمد عبد الغفور عطار، والذي أهدى له أحدهم مؤلفًا له، فرماه العطار، وألحَّ عليه ذلك الشخص لمعرفة رأيه، فاشترى كتاب الشخص وقرأه وانتقده نقدًا قاسيًا، فعاتبه الرجل؛ فقال العطار: انتقدت ما دفعت ثمنه وأما ما أهديتني فقد رميته. وذكرت له قصة ديزارلي رئيس الوزراء البريطاني في العشرين من القرن الماضي عندما أهداه أحدهم كتابًا قام بتأليفه، فأرسل له ديزارلي رسالة قصيرة كتب فيها: لن أضيع أي دقيقة في قراءته.
كان يستمع لي بكل حواسه وكأنني أنا الأستاذ وهو التلميذ وتلك هي صفة العظماء وتواضع العلماء. وكانت ذاكرته الفولاذية تسعفه كلما أراد التعليق أو الاستشهاد ببعض أبيات من الشعر أو المقولات أو العبارات التي كان يختارها بعناية لتناسب سياق الحديث.
سأل الأستاذ التلميذ: منذ متى لم نتقابل وجهًا لوجه؟
أجاب التلميذ(أنا): عشرون سنة.
قال الأستاذ: وهل تشارك في الأنشطة الأدبية والثقافية التي تقام في المؤسسات الأدبية؟
قال التلميذ: “كانت لي مشاركة من قبل ربع قرن، وقلت رأيي بصراحة، ومن بعدها تم حظري بطريقة (أدبية)، ولم توجه لي أي دعوة للمشاركة”. قص التلميذ على الأستاذ المناسبة ورأيه الذي تم على أساسه حظره بطريقة غير رسمية.
قال الأستاذ: يتوجب المصانعة أحيانًا، فالكذب مهلكة وبعض الصدق أيضًا.
رد التلميذ: رأيي لم يكن مجانبًا للحقيقة التي أعرفها عن الشخص الذي دار النقاش حوله وحول نتاجه الأدبي، وتعودت من أساتذتي، ومنهم الدكتور يوسف عز الدين (يرحمه الله) الذي علمني أن أكون دائمًا وأبدًا طالب علم وأدب، ومن الدكتور إسماعيل الصيفي (يرحمه الله) أن عبارة “لا فض فوك” لا وجود لها في قاموسه، وتلك العبارة وعبارات أخرى مثل: “أحسنت” “صح لسانك” أتخمت المجتمع والساحة الثقافية بأناس لا ينتمون إلى عالم الأدب عمومًا والشعر خاصة، وإنما تغلب على نتاجهم الصناعة أو الصنعة، وهم نظّامون وليسوا شعراء، وأصبحت المطابع تقذف علينا يوميًّا بإصدارات، الغث منها وفيها أكثر من السمين. وقد اتبعت أسلوب أستاذيَّ في حياتي، وعندما يرسل لي أحدهم نتاجه، سواء كان قصة أو ما يظن أنها شعرا ويطلب مني إبداء رأيي وتعليقي، فلا أكذبه القول، لأن بضاعتهم عندهم تكون خاصة، ولكن عندما تصلني تخرج من الخصوصية للعمومية، ولي أن أبدي رأيي بما أعرف.
سأل الأستاذ: ألم تطبع لك ديوانًا؟
رد التلميذ: حاولت التواصل مع بعض دور النشر خارج المملكة، وطلبوا مبالغ مالية دون النظر إلى بضاعتي إذا كانت جديرة بالطباعة والنشر.
قاطعه الأستاذ: وماذا عن النادي الأدبي؟ ألم تتواصل معهم أو يتواصلوا معك، فالدولة صرفت للأندية الأدبية ملايين الريالات للارتقاء بالحالة الثقافية، وطباعة النتاج الأدبي للمثقفين والأدباء.
قال التلميذ: أنا ما زلت وسأظل طالب علم وأدب، وقد رضيت من الغنيمة بالإيابِ، وحياتي مثل حياة الرهبان البوذيين، أقضيها في بيتي مع الماعز والقطط والطيور، أحميها من القرود التي تزورني كل صباح، وتواصلي مع البشر أصبح نادرًا.
قال الأستاذ: هذا تقصير منك، فلا بد من التواصل والاتصال مع الآخرين لإثبات التواجد والوجود.
ثم أدار الأستاذ دفة الحديث إلى منحى آخر، وتحدث عن معرض الكتاب، ومما قاله إنه لاحظ أن الإقبال أولًا على الكتب الدينية، ثم كتب الشعر الشعبي، ثم الطبخ، ثم المفاهيم الحديثة التي تصنف على أنها تطوير للذات وكيف تصبح أسدًا وأنت فأرًا، وتحدث عن أن بعض الشباب يذهب للحلاق ليحصل على قصة شعر من نوع وأسلوب معين ويدفع مائة ريال، ولا يكلف نفسه أن يصلح ما في رأسه بعشرة ريالات (يقصد أن يطور من تفكيره بشراء كتاب يرقى بذهنيته).
أحس التلميذ مرارةً وألمًا وحزنًا في نبرة الأستاذ عندما تفوه بتلك العبارات، وبدا له أن الأستاذ يتفق معه باطنًا على أن بعض ما ينشر مثل قَصَّة الشعر الفارهة على رأس فارغ.
إن عبد الرحمن المعمر شخصية فريدة من نوعها، ولا يحتاج إلى شهادة مني، فهو قامة لها وزنها بين المفكرين والأدباء وأعيان البلد منذ عقود.
قال لي ونحن نودعه بعد قضاء ما يقرب من ساعتين ونصف الساعة: الحديث معك والاستماع لك لا يمل، ولا تكفي ليلة واحدة أو اثنتين أو ثلاثة؛ كانت مجاملة لطيفة منه فأنا كنت ولا زلت وسأظل طالب علم وأدب في حضرة عبد الرحمن المعمر وأمثاله.
عندما أصف عبد الرحمن المعمر بالشيخ الأستاذ فهو أكبر من كل الألقاب التي تقال، لأن البعض ممن نطلق عليهم لقبًا أو صفة يكون الكرسي الذي يجلسون عليه أكبر منهم.
علي بن عويض الأزوري