المقالات

محدودية العقل

“العقل البشري غير قادرٍ على إدراك الطّبيعة الحقيقة للحياة، والمعنى العميق لحركة التّطور، بما أنَّه ليس سوى جزءٍ مُنبثقٍ من الحياة، خَلَقَته الحياة في ظروفٍ معينةٍ ليعمل في ظروفٍ معينة”.

جميعنا يدرك ما يقوله الفيلسوف الفرنسي، ولكن لوهلة، وكأنَّك تقرأ للمرّة الأولى، بل وكأنَّك تدرك ذلك لأول مرّة، وربما كانت تلك العبارة أداةً لإعادة النّظر في الكثير مما أعجزنا فهمه، وتغلّقت على أعتابه قلوبٌ ذكيةٌ وأرواحٌ متقدةٌ وعقولٌ تأبى الانصياع.
أنت جزءٌ منبثقٌ في هذا الكون، ولديك الكثير مما خُلِق لأجلك، ونعم تملك المحورية بطريقٍ أو بآخر، ولكن تملكها بما يحقق استثمارها لا بما يحيطك بها وبتفاصيل غايتها ومبلغ علمها ودقائقها.

كلُّ هذا العالم من أجلك، ولكن بطبيعة الحال ليس بالضرورة أن تتكشَّف لك أسراره، ولا تشعر بالعجز أمام هذا العجز فالطّبيعي جداً أن لا تفهمه لأنَّك جزءٌ صغيرٌ فيه، وزاويةٌ ضيقةٌ في فضائه.
كما يقول إيمانويل كانط “أستطيع أن أصف لك كيف يبدو لي العالم، لكني لا أستطيع أن أصفه كما هو في الواقع” وربما هنا تأكيدٌ على العجز، وتأكيدٌ آخر على المعرفة في آنٍ واحدٍ لنصل إلى محدودية العقل البشري وضرورة البحث لتوسيع دائرة الوعي بتلك المحدودية، وبالتّالي توسيع دائرته قدر المستطاع لتمرير فكرة أننا محورٌ للكون ولو من باب الاعتداد والعُجب والتّباهي.

وتحسب أنَّك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
نرددها من أجل أنفسنا لعلَّها تبعث الطّاقة في كلِّ حالة عجزٍ أمام هذا السّر الكبير الّذي تتقدم خطواتٍ كبيرةً في فهمه، وما أن تصل لمرحلة الرّضا تكتشف أنَّك أوغلت في الجهل، وتماديت في صفرية السّطحية حتّى لم تعد تُميز ما تعرفه فضلاً عما لا تعرفه.

الإيمان بالمحدودية لا يعني الوقوف، بل يعني تعظيم المحيط بقدر ما يبعث للحركة نحو الفهم الجزئي على الأقل، ويقوّض جدران الجهل بما يعطي لأنفسنا أحقيةً بالفهم والمخاطرة من أجل ذلك الفهم.

تحطيم الأغلال وكسر القيد عن ذلك العقل يمكن أن يعطيه فسحةً أكبر نحو المعرفة، وهذا ما نطلبه وتكتمل مرحلة التّمام تجاه ذلك العقل بالإيمان بالشّك حول ما نعرفه من جهة، وما يتبدّى من خلف الأستار من جهةٍ أخرى مما صنعه غيرنا، وغيرنا ليست حكراً على صنائع العقل فقط.

ختاماً… إيمانك بالعجز يهديك طاقةً للبحث، ونتيجة البحث ستهديك شكاً يهدي إلى اليقين، وبذلك تحظى بعقلٍ رغم محدوديته إلا أنَّه يعمل بكلِّ طاقته، وهذا هو النجاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى