المقالات

محمد نويلاتي وجدة التاريخية (3-3)

كنّا قد استعرضنا بعض التفاصيل في المقالين السابقين عن كتاب ” جدة.. عبقرية المكان” صفحات من فرادتها الروحانية والثقافية للمؤلف الدكتور محمد أنور نويلاتي الذي سلّط الضوء المبهر على جدة كمدينة تاريخية تضرب بأثرها وآثارها وثقافتها وروحانيتها وتجارتها وموقعها وأنسنتها أعماق التاريخ في كل مراحله ما قبل الإسلام وما بعده بآلاف السنين حيث سطرت برجالها وعبقها ومكانتها مئات السنين من التمدين الذي جعلها تبهر الرحالة العرب والغرب الذين سجلوا عنها سطورا تكتب بماء العين تمجيدا وتمهيدا لما وصلت إليه اليوم في العهد السعودي الزاهر الذي نفخر به ويفخر به كل من يعيش فيها أو يزورها أو يقيم بها ولو لساعات من يوم .
نويلاتي دلف إلى أبواب الكتاب بموضوعات ذات قيمة تاريخية مهدت للحقبة التي تعيشها اليوم فتحدث عن عبقرية المكان وهدف ومنهج الكتاب والقضية التاريخية بين المؤرخ والمثقف واختتم الباب الأول بأسطورة الإسكندر من جدة مثالا وتحت كل فصل من هذه الفصول شرح رؤيته التي قد تكون رؤية خاصة بمنهج خاص يمثله منهج جمال حمدان وفي هذا الباب قارن نويلاتي بين مصر بعمومية الإسم كدولة وبين جدة بخصوصية التسمية كمدينة وهي مقارنة بين عام وخاص وكأن جدة تمثل من وجهة نظره في تاريخها تاريخ مصر بحكم القرب ومن باب الاستدلال لا التطابق بينهما وحصر المقارنة في عدة أوجه منها البعد الحضاري ووسائل التوثيق الضعيف لجدة والكامل لتاريخ مصر وفصل كثيرا عن الأبعاد الأخرى كالبعد الجغرافي والموانئ البحرية والثغور البرية والبعد الصحراوي والروحاني والبعد العالمي والمائي والبعد السكاني والسياسة والإدارة ووضع معادلة حسابية جغرافي لمكانة جدة وهي : المكانة تساوي الموضع في الموقع فميزها عن مصر وبرهن بقوله : إذا ما اجتمع الموضع والموقع في توازن ظهرت جدة ومكانتها وتفردها والعكس يظهر وهنها وضعفها واستدل بمرحلة ” فتنة جدة ” عندما وهن الموضع وقوي الموقع فحدثت الأحداث الدامية وما تلاها وليس بالضرورة هنا نضع مصر موضع المقارنة في هذا البعد وقارن أيضا بين المؤرخ والمثقف في سرد كل منهما وتناوله للتاريخ وقضاياه وفق أدواتهما وهي مقارنة ذات منهجية موفقة من وجهة نظري .
واستخدم المؤلف منهج جمال حمدان واقتفى أثره في وصفه لمصر واستخدامه لبعض المصطلحات كما في قوله عبقرية المكان جغرافيا باعتبارها فلسفة قد تصل للتكامل باستعراض جغرافية المكان الطبيعية والبشرية والتاريخية والجغرافيا الإقليمية التي تستند على العلوم الإنسانية مصر نموذج عند جمال حمدان في ” شخصية مصر” حيث استخدم نويلاتي في كتابه المنهج الوصفي والتاريخي ” الاستردادي ” والمنهج التحليلي والمنهج الاستقرائي والاستنباطي في بعض الجزئيات واستدل بتفرد جدة التي كانت بسبب عبقرية المكان حيث وقع اختياره لثلاثة عصور هي : العصور السحيقة وعصور التاريخ القديم ثم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وما شهدته من ازدهار تجاري غير مسبوق باعتبار مينائها هاما لإعادة التصدير لبضائع الهند والشرق الأدنى إلى شمال افريقيا وأوروبا واليمن حيث كانت ملتقى المعابر رغم مرورها بالمعادلة التي ذكرها المؤلف بسبب القوى الاستعمارية حيث حصل اختلال بين الموضع والموقع أدت لفتنة جدة فانتعشت بعدها لتشكل ثلاثية الأبعاد فيها بين ( الروافد والمعابر والأفئدة ) في تأرجح اتضحت مخرجاته في العصور الثلاثة المختارة .
و نفا المؤلف بالأدلة الزعم أن الإسكندر الأكبر أو ذو القرنين زار الحجاز و طاف البيت بمكة وأبحر من جدة نحو المغرب حيث لا يوجد ما يؤيده من أحداث التاريخ الموثق في عهد المؤرخين الإغريق ومن بعدهم الرومان الذين غزو الجزيرة العربية بعد ثلاث قرون من وفاة الاسكندر الأكبر في عام 25 ق . م . مع أن العلماء المسلمين اثبتوا بأنه من أصل عربي موحد بالله وأن زمانه مختلف عن زمن الاسكندر المقدوني من ألف إلى ألفي عام تقريباً أكد ذلك شيخ الإسلام إبن تيمية بقوله: أن أرسطو كان قبل المسيح عيسى بنحو 300 عام وكان وزيراً للإسكندر وبالتالي فهو غير المذكور في القران الكريم لأن ذا القرنين كان متقدماً وهو الذي قام ببناء سد يأجوج و مأجوج بينما المقدوني كان مشركاً وثنياً يعبد هو و اهله الكواكب و الأوثان .
المؤلف استعرض جدة و ما حولها في عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية وأكد أن جدة بحكم تنوع أمصار ساكنيها تعتبر موطن التسامح الإسلامي واستخدم المسح الأثري وقارن بين العصور التاريخية بين حقبتي الثموديين و قضاعة واستدل ببعض الخرائط و المعالم بجغرافية جدة و الروافد المائية العذبة التي تجتمع في أكثر من مائة وادي وتحدث عن الهجرات من وإلى جدة وفصّل عن فتنة جدة عام 1858م التي وصفها الشيخ احمد دحلان بأنها من أعظم المصائب على الإسلام مختتماً القول بأن جدة وأهلها خرجوا منتصرين ضد القوى الاستعمارية وصنعوا أهلها الحياة و التجارة من جديد وازدهرت الحركة التجارية وعاد ميناؤها إلى سابق عهده واستطاعت جدة أن تفشل المخططات الاستعمارية حتى تم تأمينها بدخولها في الحكم الوطني السعودي الممثل بحكم الدولة السعودية تحت راية الملك عبدالعزيز – يرحمه الله – وعندها التقت عبقرية المكان بعبقرية القيادة حتى عصرنا اليوم
وتحدث نويلاتي في إحدى ملفات الكتاب عن ثقافة جدة في القرن التاسع عشر من الشعر و الأدب الشعبي واستدل ببعض الموشحات وأشكال الغناء والأناشيد و الأهازيج وعرّج في الكتاب على التدين الإسلامي المؤسسي بالثوابت و التدين الشعبي وفرق بينهما وبين طقوسهما مركزا على الصوفية كتدين شعبي وأهم فرقها وزواياها وأسماء ما يعرفون بأولياء الله المرتبطة هذه الزوايا بأسمائهم وسجّل أسماء بعض الأضرحة التي اندثرت ولم يتحقق موقعها لعدم الفائدة من بحثها ابتداء من القرن التاسع الى الرابع عشر كما تحدث عن الأربطة في مكة وفي جدة مستدلاً برباط كان باسم الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه في جدة ورباط باسم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه في مكة من بين 156 رباطا في العصر العثماني فيما بلغ عددها حينها في جده 12 رباطا فقط .
من وجهة نظري أن الكتاب يحتاج الى تحقيق موسع عن هذه المدينة التاريخية تنطلق أدواته من أبواب وفصول وأوراق هذا الكتاب الذي اكتفيت بثلاث حلقات لاستعراضه لعله يجد طريقه للباحثين بالوقوف على كل ما استعرضه المؤلف بالتدقيق والتحقيق العلمي في دراسات قادمة لأهميته .

انعطاف قلم :
شكرا لعراب جدة التاريخة و الثقافية الصديق صديق الجميع الأستاذ محمد باوزير الذي دائما ما يكون بصحبة من يزور جدة التاريخية يقف معهم بالشرح والتفصيل عن كنوزها التاريخية والثقافيه والتجارية و الجغرافية وتراثها وموروثها وهو علم من أعلام منطقة مكة عمل موظفاً أسبق بمينائها وموظفاً بوزارة الإعلام لمدة سبعة عشر عاماً ومديراً لتحرير مجلة الإعلام والاتصال ومديراً لتحرير لأم القرى الأسبوعية ثم مستشاراً في إدارة الأندية الأدبية ومستشاراً لمدير عام فرعها بمنطقة مكة وله مقالات في عدة صحف ومجلات صحفياً ومحرراً ثقافياً في صحيفتي المدينة والرياض امتدت فترة عمله لثلاثين عام في بلاط صاحبة الجلالة حتى التقاعد والتفرغ للقراءة والكتابات النقدية والتاريخية وسير الرحلات .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى