قفز فوق (قَصْعَة) النار، مخترقاً دائرة الرجال، متوجهاً نحو الشباك، مكملاً فراره نحو الشارع الذي أتى منه لتوه !
نفرٌ قليل من أولئك الملتفون حول (الجُوزة) هم من أدركوا أمر عبوره طائراً من فوق (القصعة)، ومن ثم إلى الشارع عبر النافذة ، فَهُم جميعاً قد أخذتهم النشوة التي يَخْلِقُها الحشيش في أرواحهم، حتى أن أولئك الذين انتبهوا لظهوره واختفائه فجأة.. لم تتململ أجسادهم .. سوى تلك الحركة التي يخلفها ضحك الرجال .
الليلة عيد.. ولكنها لم تعد كذلك بالنسبة للعربي الجزار بعد أن نطحه (العَبُور) في أم محاشمه.. فامتقع وجهه وأطبق فمه وتَلَوَّىٰ كدودة أرضٍ لا يستقر لها قرار ولا يُعرفُ لها رأسٌ من ذيل.. متمرغاً في حوش بيت (الغرابلي)، لكنه وتحت وطأة نظرات نسوة البيت -متلصصة على يده التي دسها بين فخذيه- هَمَّ واقفاً .. ملتقطاً السلاح في يمينه، وذيل جلابيته في يساره، ليلحق بالغرابلي الذي كان يجري بمؤخرته الثقيلة خلف العَبُور في أزقة الحارة .
بينما كان الغرابلي يقفز خلف العَبُور بين الأزقة مقطوع النفس.. ومن خلفه العربي الجزار .. لم يكن أي من مرتادي (المخانة) قد أدرك بعد كُنْهَ هذا العابر طائراً وسط سُحب الحشيش، ولم يلق أي منهم بالاً لجلال الحدث بعد أن أعزى بعضهم لبعض أن صوراً قد تتراءى لك كلما كان الصنف جيداً غير مغشوش، فاطمأنت قلوبهم.. و أورقت النشوة في أرواحهم وكأن شيئاً لم يكن .
لم يكن صوت (الست) الذي يتسرب إلى الحارة – من تلفاز المقهى، ومن نوافذ البيوت مبشراً (الليلة عيد) – بقادر على كسر توتر المطاردة غير المتكافئة بين العَبُور الذي أطلق قوائمه فراراً من السلاح الماضي و بين هرولة صاحبه الغرابلي بمؤخرته الثقيلة، ومن خلفهما العربي الجزار الذي كان يتصنع الجري مباعداً بين فخذيه.. و السلاح مشهر – بلا داعٍ – في يده، سيما وقد اتخذت المطاردة منحى تخريبياً بعد أن راوغ العَبُور مطارديه متوجهاً رأساً نحو صالون (الأصابع الذهبية) لينطح بابه الزجاجي بلا عمد .. ثم يستدير مكملاً مغامرة الفرار.. تاركاً خلفه عبده الحلاق مبهوتاً، يقف على رصيف الصالون فوق هشيم الزجاج، و الفتلة مشبوكة بين أسنانه ومدلاة من فمه .
كان صوت تهشم الزجاج قد وقع على عبده الحلاق وقوع صاعقة على نخلة يابسة، فبينما كانت أنامله الذهبية مٌحْكِمَةً على طرفي الفتلة.. متتبعاً تلك الشعرات التي تناثرت حول حاجب الزبون النائم؛ كانت رأس العَبُور وقائمتاه -وقد عبرتا الباب- تدفعانه دفعة تكفلت بانتزاع النصف العلوي من حاجب الزبون النائم .
الليلة عيد.. والحارة نصف نائمة.. أبواب البيوت مردودة على ما خلفها ما بين نائم أو مضجع أو من يقضي وترا .. والمصلون -وقد فرغوا من صلاة الفجر- انْتُزِعَتْ طمأنينتهم بصوت العربي الجزار زاعقاً، وهو مشهر سلاحه في يده: (حَلَّقْ يا جدع ) ، غير أن أي منهم لم ( يُحَلِّق ) على العَبُور الذي مرق كالسهم من بينهم خارجاً من الزقاق ليختفي عن أعينهم ومن خلفه الرجلان
الحارة زقاق ينسلخ من زقاق .. بلا منطق أو حساب .. الرجلان يحفظانها عن ظهر قلب.. أما العَبُور فكان يفر على غير هدى، فبعد أن مرق وسط نفر المصلين خارجاً من الزقاق .. كان الغرابلي قد لحق به أو يكاد .. وكلمح البرق راوغ العَبُور نحو زقاقٍ (سَد) يتصدره باب ذو ضلفة واحدة مغلقة وشباك واطئ موارب فاندفع نحوه قافراً، وما لبث أن خرج منه مثلما دخل، مكملاً فراره، خارجاً من الحارة الضيقة إلى الشارع الوسيع، و(لِيَّتُه) تتأرجح خلفه يميناً و يساراً، وفي أحد قرنيه سوتيان أحمر تُطَيِّرُه الريح.
كان خبر فرار (عبور) الغرابلي من تحت سكين العربي الجزار قد انتشر في الحارة كأي خبر يحرص ناقله على إضفاء حبكة عليه.. أو تذييله برأي أو معلومة خافيه عن الجميع سواه ، وفي المقهى كان الكلام : أن الغرابلي لا يتق الله.. فلا ذَبْحٌ إلا بعد الصلاة.. وهو كل عام يذبح (على كيفه) ؛ فأعطاه الله درساً ليعتبر و يرتدع، وفي المقابل كان الكلام : أن الذبيحة وإن لم تكن أُضْحِية فهي صدقة.. والصدقة خير .. و الله عادل .. فكيف يعاقب الغرابلي على تصدقه علينا.
وفي منحى آخر.. صار الكلام : أن العَبُور حين قفر عبر شُباك (توحيده) أطاح برَجُلها من فوقها، ثم سقطا سوياً على الأرض.. و أنه: وإن كانت ( توحيده ) وزوجها قد فزعا، فالعَبُور قد فزع من المنظر هو الآخر، فقز ثانية فوق السرير ليعبر من فوق المرأة التي لم تطال يدها سوى السوتيان الذي كانت خلعتها ووضعتها على المخدة لتهش بها العَبُور إلا أنها تعلقت بقرنه و(أخذها العَبُور وطار) عبر النافذة، ومن خلفه طار الرجل عارياً يستر عورته بالكاد عله يسترد السوتيان المشرع في قرنه كراية تُلَوِّح بها الريح ، وفي المقابل كان الكلام : أن ما تعلق بقرن العَبُور لم يكن سوى مفرش من الساتان الأحمر !
ومن بين الكلام: أن الغرابلي عاد إلى الحارة دون العربي الجزار و العَبُور.. و أن زوج (توحيده ) عاد قبله وقد استرد مفرش الساتان ودسه في لباسه الذي كان يستر به عورته متسللاً نحو بيته دون أن يشعر به أحد، وأن أحد الحشاشين وصل المخانة مبكراً ليُعِدَّ الجوزة والنار فوجد العَبُور ممداً أمام الباب الذي ما إن فتحه الرجل حتى هَمَّ العَبُور من رقدته ثم دخل نحو المخانة وتبعه الرجل مرحباً: (مخانتك في أي وقت ) .