الثقافيةصالون مكة الأدبيملحق صحيفة مكة الأدبيمنتدى القصة

الغرباء.. قصة قصيرة للأديب فكري داود

حل على قريتنا مقيما، خشبة العُقْر ووالداه، صغيرهما هو، لا أخ له ولا أخت، ومن المناحي المجاورة، وفدت على كتابنا أشكالٌ وأشكال، أسميناهم بالغرباء؛ من الكفر جاء جاد راضي، ومن عزبة ولسن، جاء أمين زيدان، أما عزبة عرفان، فقد أرسلت لنا، بسعد السعيد والسيد عبد الحميد، وبالمدرسة ـ فيما بعد ـ، عُرفنا جميعاً، بمجموعة الشيخ حامد، نسبة إلى كتابه.

ابن عزبة ولسن صار طبيبا، وابن عزبة عرفان صار مهندساً، بعد أن أعاد الثانوية مرتين، لتحسين المجموع ـ هكذا سمح النظام آنذاك ـ، أما جاد ابن الكفر، فقد صار مستشاراً، لم نزل نذكر معا، كلَّ فُُتَاتِ التفاصيل، يحكي ويرتاح عن الشيخ، الذي حفظ القرآن على يديه، وكتب الحروف بالتشكيل، ونطق لسانه بمضبوط الكلام، لكنه في مسائل الحساب لم يكن ضليعاً، وهكذا أرى أيضاً، فقد صرت لاحقا، معلماً للغة العربية، بمدارس الحكومة.
فيما يرى أمين، وسعد السعيد، أن دور الشيخ أصيل، في تعليمهما أصول الحساب، خصوصاً جدول الضرب، وعمليات القسمة، وإلاَّ ما بات أحدهما مهندساً، والآخر طبيباً، يتميزان عن أقرانهما، بحفظ القرآن وحُسْن الكلام، في مواقف الكلام.
أستعيد مع أيٍٍٍٍّ منهم ـ إذا حّسُن طالعي بلقائه ـ، عديد المواقف مع الشيخ، نستدعي أسبابا قديمة للدهشة، تضج حناجرنا بالضحك، في وقت عزت فيه دواعيه، وترسل إليه قلوبنا ـ قبل ألسنتنا ـ بدعوات الرحمة، صادقة لا مراء فيها.
تنشط ذاكراتنا محاولة، استعادة أسماء رفاق تلك الأيام؛ شادية وسلوى وأم هاشم من البنات، والأولاد مسعد وأحمد وماهر، و…
وكله إلاَّ خشبة، الذي ترك والداه عزبتهم، ليقيموا ببلدنا، من أجل كُتَّاب الشيخ حامد، ومن بعده المدرسة الابتدائية، قبل انتقالهم إلى بلاد أخرى، جريا وراء منحه تعليما أعلى، إلاَّ أن الظرف لم يمكنه من الارتقاء، أعلى من دبلوم التجارة، ليعمل لاحقا مشرفا زراعيا، تابعا لإحدى الجمعيات الزراعية:
ـ كيف؟
ـ لا أحد يدري.
ليس مهما في رأينا، إن كان اسمه الحقيقي إبراهيم، أوحسن، أو…، والأهم أن اسم خشبة التصق به، منذ وقعت على رأسه خشبة طائشة، من فوق أحد السطوح، ذات هوازع شتوية، يومها انشج رأسه، وشاع خبر كاذب عن موته، فقط جدَّت عليه، بعض الطباع، المصحوبة باجتراء غريب، كذهابه وقت القيلولة إلى المقابر، باحثا عن الضفادع، والجراء الوليدة، وقد يسعفه الحظ، بثعبان صغير، فيعود ممسكا بذيله، مهزهزاً إياه، فيصير عاجزا عن الحركة، فيما تتسع البهجة داخل عينيه، وهي تنظر إلى الصغار، المتخبطين في خطواتهم صارخين، وهم يسارعون بالفرار من طريقه، ناهيك عن ذهابه المتعمد ليلا، إلى أضيق شوارع القرية، بحثاً عن العفاريت، التي تشيع حولها حكايات، اتخاذها للشارع سكنناً، حيث تقوم بغلقه تماماً كل مساء، ونحن ـ كشلة الصبية ـ من بعيد نرقب خطواته، مُرْهِفين آذاننا، لعلنا نستمع إلى صرخاته، وهو يحاول الفكاك، من بين أنياب العفاريت. إلاَّ أنه يعود في كل مرة، مخرجا لسانه للجميع.
كما نجحت محاولاته غير مرة، في استدراجي، كي أرافقه الذهاب، وفي كل مرة كنا نعود، دون العثور على عفريت واحد.
يبقى ذلك وكأنه واقع بالأمس، رغم الشعر الأبيض بالرءوس، نحاول دوما، استعادة هيئات رفاق الكتاب، وسرد تفاصيل عديدة، تتعلق بخشبة ـ الصغير ـ، ترتفع دقات قلوبنا، تتسع ابتسامات شفاهنا، حريصين على اللقاء، في مناسبات عدة، كان آخرها مأتم الحاج زيدان، والد المهندس أمين، وإلى كل منا وصلت أخيرا، دعوة ملونة، تحدد موعد زواج، ابن الدكتور سعد السعيد، من بنت إبراهيم العقر ـ رئيس الجمعية الزراعية ـ، الذي تعمد أن يكتب، تحت اسمه بين قوسين: (الشهير بخشبة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى