الثقافيةصالون مكة الأدبيمنتدى القصة

الْبَيَّارَةُ قصة لـ: كرم الصبَّاغ

الدار ثلاثُ حجراتٍ من الطّوب الأخضر، تفضي إلى فناءٍ يحوطه سورٌ من الطّين. في ركنٍ من أركان الفناء يوجد مربدٌ لخمس نعجاتٍ، و كبشٍ واحدٍ، ويُوجَدُ مربطٌ لحمارٍ عفيٍّ، بُنِّيِّ اللَّون. وفي الرُّكن المقابل يُوجَدُ عريشٌ حيطانه من بوصٍ، وسقفه من جريدٍ، اعتاد الشّيخ أن يقضي داخله النَّهار بطوله، واللَّيل معظمه. ورغم ضآلة نفقته، ورغم أنه لا يعول سوى زوجةٍ مسنةٍ، فقد كان ينغمس في عمله المضني حتّى أذنيه كطريدةٍ تفرّ من النار إلى النار، وإنّما أراد، وهُوَ الشّيخ، الَّذي تخطَّى السّتين من عمره أن يستعين بما تبقّى في جسده من قوةٍ على فتل الحبال؛ لعلّه يشنق بها همومه، الَّتِي لازمته صباح مساء مُنْذُ أَنْ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَخْبَارُ “عَامِرٍ” ولده الوحيد، الَّذِي خرج ذات صباحٍ، ولَمْ يعد؛ فظلَّ مصيره مجهولًا. لا يعلم أحدٌ على وجه اليقين أأهُوَ حَيٌّ الْآنَ أَمْ مَيِّت؟ ها هو الشّيخ في جلبابه الرماديّ منكبّ على الألياف، له لحيةٌ بيضاءُ تشبه لون عمامته، يمرر ممشقته ذات الأسنان المعدنيّة الحادّة على ألياف النّخيل، والدوم التي اشتراها من البساتين الواقعة على تخوم النجع منذ عدّة أيام، يحولّها إلى شرائط طويلة متوازية، ويعمد إلى “الفتّالة”، فيضمّ بها كل ثلاثة خيوط إلى بعضها البعض، يصنع جدائل، يحكم فتلها؛ فَتَصِيرُ حِبَالًا، لا تصنع يدٌ في الأجوار مثلها.
لا جديدَ اليوم؛ فالوقت يمر ثقيلًا موجعًا كما جرت العادة، والذكريات تهاجم الشّيخ؛ فيهرب منها إلى أليافه و حباله، ولا ينتبه إلا والمساء يخيم على الدار؛ فينهض من مكانه، ويسكب قليلًا من الكحول، وما إن يشعل رتينة “الكلوب”، حتى يغمر الضوء الأبيض جنبات العريش؛ فيعود إلى عمله، لكنَّه يشعر بأن براجم أصابعه تئن من فرط الألم؛ فيلقي بالممشقة و”الفَتّالة” جانبـًا، ويصرف بصره إلى الخارج، حيث توجد المساحة الفارغة من الفناء التي لم يصلها من الضوء إلا القليل، تمر لحظاتٌ؛ فيشرد ذهنه، ويختلط في عينيه الوهم بالحقيقة، وسرعان ما يرى طيفًا من دخان، يدنو منه رويدًا رويدًا. الطيف يقف على عتبة العريش، و قلب الشّيخ يرتجف، والدّخان يتكاثف، و يتشكل على هيئة إنسيّ، له وجهٌ مستديرٌ، و منيرٌ كالبدر، قد ارتسمت على ثغره ابتسامة حانية، ما إن يبصرها الشّيخ، حتَّى يهزّه الفرح؛ فيهتف، ويهمُّ بالنُّهوض، لولا أنَّ زوجته تقتحم العريش، فجأة، حاملةً على رأسها صينية العشاء؛ فيختفي الإنسيّ، ويعود الشّيخ إلى حسراته، ويمدُّ بصره الكليل إلى الخارج، وتتعالى دقات قلبه، و يدقّق النّظر بلهفةٍ؛ لعلّه يلمح الطيف مرّةً أخرى، لكنّه لا يجد له أثرًا؛ فيلتفت إلى زوجته، ويقسم لها بأنَّ ولدهما “عامرًا” كان ماثلًا بين يديه منذ قليل، ويبشرها بأنَّه ما زال على قيد الحياة. و عندما يرى في عينيها نظرة ارتياب، يسألها باندهاش: ألا تشمّين رائحته مثلما أشمّها؟! كأنَّه بين أحضاني الآن، كأنَّه لم يأخذ النّور، و لم يرحل قطْ. الشّيخ يمضي في حديثه واصفًا لوعته، و شوقه، والزوجة تسرف في الأنين، والعبرة تخنقهما؛ فينخرطان في نوبة من البكاء الحار، ويذهلان تمامًا عن الطّعام والنّوم سائر الليل.
بعد أذان الفجر مباشرةً يهمُّ الشّيخ بالخروج إلى السُّوق؛ فقد كان لزامًا عليه بيع حباله، التي أنفق على شراء أليافها كلَّ ما كان في حوزته من مالٍ. يخرج بصحبة زوجته إلي العريش؛ فيرى تباشير النَّهار. يحملان معًا الخرج الممتلئ بلفات الحبال، يطرحانه على ظهر الحمار؛ فلا يجد مكانًا لركوبه؛ فيقرِّر أن يقطع المسافة سيرًا على الأقدام. تفتح زوجته بوابة الفناء المصنوعة من ألواح الخشب والمسامير والصَّفيح، فيتجاوزها، وهو يجرُّ حماره؛ فتفاجئه شجرة “الجازورين” العتيقة التي تقع على يمين البوابة بزخةٍ من قطرات النَّدى، التي تتساقط على عمامته و وجهه الغارق في الوجوم.
يبدأ المسير، متوكئًا على عصا خيزران معكوفة الرأس، الشَّوارع أمامه شاغرةٌ إلا من كلابٍ، راحت تطارده بنباحها، يخوّفها بعصاه؛ فتتراجع إلى الوراء، وتكفُّ عن مطاردته، وتكتفي بالنّباح. يسمع بعد لحظاتٍ صياحَ ديكةٍ، و زقزقةَ عصافيرَ، غادرت أعشاشها للتو، وراحت تسكب زقزقتها دونما توقفٍ؛ فيشعر بالطمأنينة، ويمضي في طريقه؛ تصبح دور النجع خلف ظهره، يوغل في الصَّحراء، يمرُّ بأربعة نجوعٍ، الواحد تلو الآخر بسلامٍ، لكنّه ما إن يصبح على مشارف النجع الخامس، حتَّى يشعرّ بالانقباض، لطالما تحاشى المرور بهذا المكان، حيثُ تقع في نهايته البيّارة. ورغم أن الحكاية لم يروها سوى مجذوبٍ من المجاذيب، إلَّا أنَّ الشَّيخ كان يحول طريقه كلَّ مَرَّةٍ، مبتعدًا قدر الإمكان عن تلك البئر المشئومة.
منذ أن غاب “عامرٌ”، تضاربت حوله الحكايات؛ فقال البعض: دلَّل الحَبّالُ ولده، حتَّى أفسده، ولَمَّا كان الفتى أخضرَ، بلا تجربةٍ، عشق امرأةً لعوبًا؛ فأتلفه العشق، و عندما علم الحَبَّالُ، غضب، وأغلظ لابنه القولَ؛ ليصرفَه عن طيشه، و لكنَّ الفتى أعماه هواه؛ فقرَّر هجر أبويه، والهروب مع عشيقته إلى مكانٍ لا يعلمه أحدٌ. بينما قال المجذوب: في ذات صباحٍ كان الحَبَّالُ محمومّا؛ فخرج عامرٌ بمفرده يحمل الخرج فوق ظهر أتانٍ، و لمَّا مرَّ الشابُّ بمحاذاة البيَّارة، رأته جنيةٌ، خرجت للتو من جوف البئر المظلم. كان عامرٌ مليحًا، يسرُّ العين؛ لهذا عشقته الجنية من النظرة الأولى، وقرَّرت في الحال أن تتزوج منه؛ فراحت تغمغم بتعويذةٍ، أذهبت عقل الشابّ، فأصبح مسحورًا، يهذي. و في غمضة عينٍ، ألقت الجنية بعامرٍ وأتانه إلى جوف البيَّارة، حيثُ يوجد في قعرها المظلم سردابٌ، يفضي إلى أرضٍ سفليَّة، ترتع فيها الجنيات. أقسم المجذوب ثلاثًا أنَّ من قصَّ عليه الخبر خمسةٌ من البنينَ، هُمْ في حقيقة الأمر هجينٌ من الإنس والجن، انحدرت نطفهم من صلب عامرٍ إلى رحم الجنية. يصعدون من جوف الْبَيَّارَة إلى سطح الأرض، كُلَّما صار القمر محاقًا، من عاداهم، حرقوه، ومن سالمهم، شرب من كأس السعد.
الشّيخ يقف على مشارف النجع الخامس مرتبكًا، يرنو إلى السماء، ويخشى أن تشرق الشمس؛ فيتأخر عن السّوق، يرغب في مواصلة السّير؛ لكنَّ قدميه تخذلانه، يشعر بهما متسمرتين في الأرض، لا يستطيع تحريكهما، و بينما هو كذلك؛ إذ بصوتٍ يشبه هزيج الريح يتردَّدُ في أذنيه، فيرهف السّمع، الصَّوت يدعوه إلى الاقتراب من البَيَّارة، فهناك سوف يرى من يشتاق إلى لقياه. الشّيخ يذعر، وينتفض جسده، والصوت يلحُّ عليه دونما توقفٍ، و كما تجذب رائحة العسل الغرير، يجذب الصوتُ الشيخَ صوب الْبَيَّارَة، وما إن يقترب من الطوق الحجريّ المبنيّ على حافتها، حتّى تجذبه يدٌ خشنةٌ؛ فيهوى إلى الأعماق المظلمة السّحيقة، و عندما يصل إلى القعر، تتلقفه أيادٍ أخرى، تدفعه إلى داخل سرداب، ما إن يعبره، حتَّى يتفاجأ بولده، يجلس على عرشٍ من الأبنوس المرصّع بالذّهب، والجواهر، بينما تجلس بجواره أنثى تلتمع كالشّمس، تنحني لها صفوفُ الجنيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى