يحدث أن نسمع جملة انطباعية من صديق نلتقيه، أو عابر لا تعبر معه كلماته، يتحدث أحدهم عن تغير في ملامح، أو ثناء على مظهر، وقد تبقى كل الجمل الانطباعية معلقة حتى نهاية المطاف، والذي يغلب أن يكون في الساعة التي تسبق النوم، في انتظار النعاس؛ تتحول الكلمات التي سمعت وطويت إلى مشاعل تضيء فتبدد ظلام التجاهل، وهدوء المساء.
حقًا .. ليست كل الكلمات سيئة في تأثيرها بالضرورة، بل يكاد يكون أغلبها جميلاً كمن يتحدث به، لكن ذلك لا يمنع من التساؤل حول كل فكرة يبديها الآخرون، أن ننظر لها بزوايا متعددة، ولا أعلم ما إذا كان ذلك أمرًا صحيّا أو مبالغة تستحق العمل على تجنبها.
لا أنكر.. أن الركض في واجبات العمل وروتين الحياة يجعلنا نفوّت الكثير من الأفكار، متشبثين قدر استطاعتنا بألا ننقض وعدًا أو نقصر في واجب، ولأننا نتعامل مع أشياء محدودة كالوقت والجهد والوعود والواجبات، فغالبا.. سيفوت شيء مّا.. نستذكره ربما في هدوء الليل المهيب، حين تبدأ في الحديث تلك الذاكرة التي جمعت مواقفها منذ بداية اليوم.
أتذكر..في مراحل مرّت، كانت لديّ طاقة تنافسية، تجعلني أبحث عن ذاتي في الآخرين، وأشعر أنهم من يملك البوصلة، ويحسن اختيار ما يتوجب فعله، لدرجة أن معيار القبول والانتماء؛ لم أكن أملكه، وإنما ما أسعى إليه مرة بعد أخرى من خلال الآخرين، يحمل كل واحد منهم مشعله في كل مرحلة، ليعلن نفسه قائدًا ودليلاً، يزعم واثقًا أنه يعرف رغباتي الشفافة، ويدرك كيف يمكن لكلماته أن تكون مؤثرة، وتخلق مسارًا يمتد لسنوات أحيانًا، دون أن يخالجني الشكّ في أني أسير نحو وجهتي أنا، التي اخترتها بكامل رضاي، ولا شك أن الآخرين يجدون لذة رهيبة في صنع التأثير بكامل ما لديهم من إمكانيات، وكأن ذلك يشبع جانبًا لديهم، أصوات عالية، في مقابل صوتٍ مهمّش؛ يأتي من نفسي المنزعجة بين الصخب، صوتها بين أصواتهم؛ يشبه جدولاً في آخر الغابة؛ لن تسمعه حتى تنصت، حتى تنام كل البلابل، ويكف النسيم عن هز أغصان الشجر، وحمل أوراقها على التصفيق، وحدث ذات ليلة.. أني سمعت ذلك الصوت الواهن، وتوجهت إليه خطاي، باحثًا عن أناي، سرت.. حتى وقفت على حافة الجدول، لألمح في صفاءه كل أمنياتي، التي تراكمت كأحجارٍ ملونّة، جلست أجمعها بهدوء، حتى سمعت صوت القاء حجر على صفحة الجدول، التفت.. لأجد ذلك الطفل الذي يشبهني، كأنما قضيت النصف الأول من حياتي ألقي بأحجاري، والآن أجمعها كخبير آثار، أصفها على طاولتي، محاولاً إيجاد قواسمها المشتركة، وتناسقها المستحيل، أخلق لكل حجر ذكرى وموقف، وأتسائل ما الذي منها يحتضن الذهب!
إن وجود الآخرين في حياتنا بقدر ما هو مهم، وضروري، إلا أنه لا يجب أن يمحو وجود ذواتنا من أجلهم..
هذا ما أصبحت أتنامى مؤمنًا به، حقيقة أن يكون للإنسان وجود مستقل، وصوت مسموع بينه وبين ذاته، لا يقل أهمية عن أي صوت آخر، بل يفوقها مكانةً وإنصاتا.
ستبقى كل الأصوات تتحدث، وتطلب، وتشير، وتجادل، وحق على الذات أن يبقى صوتها الأعلى، أو الأقرب، ﻷن من لا يستمع إلى نفسه، لا يعرفها..
0