المقالات

ثمن الذهاب إلى جدة

كثرت المطالبة بضرورة الذهاب إلى جدة لمواصلة مفاوضات السلام بين طرفي النزاع؛ “الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع”، لعل أكثرها زخمًا إعلاميًا في الآونة الأخيرة اتصال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بالجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة حاثًا إياه على الذهاب إلى جدة لإعادة العملية التفاوضية، وجاء رد الحكومة السودانية غاضبًا وخاليًا من الدبلوماسية من قبل السيد مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة، الذي اكتسب عضوية المجلس بموجب اتفاق سلام جوبا الموقع في أكتوبر 2020م بين حكومة د.عبدالله حمدوك والحركات المسلحة التي قاتلت نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، إذ اعتبر مالك عقار مطالبة وزير الخارجية الأمريكي بالذهاب لجدة استهوانًا واستخفافًا بالرئيس السوداني وحكومته.
في زحمة الأحداث وتطورات الحرب الدائرة بالسودان ينسى البعض أن هناك اتفاقًا متكاملًا “لوقف إطلاق النار قصير الأمد والترتيبات الإنسانية” جرى توقيعه في مدينة جدة، سبقه إعلان جدة (الالتزام بحماية المدنيين في السودان) الموقع في 11 مايو 2023م، حيث بذل رعاة الاتفاق “المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية” جهودًا مضنية ومقدرة في الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار المؤقت بين طرفي الصراع بالسودان، حيث تضمن الاتفاق بنودًا من شأنها وقف إطلاق النار بين الطرفين والترتيبات الإنسانية مع آلية تنفيذها ممثلة في لجنة مراقبة وتنسيق وقف إطلاق النار قصير الأمد والمساعدات الإنسانية، ومن أهمها أن يضمن الطرفان التزام جميع القوات الخاضعة لسيطرتهما بالامتناع عن الأعمال المحظورة التي تُشكل انتهاكًا للاتفاق ممثلة في جميع انتهاكات وخروقات القانون الدولي لحقوق الإنسان، وانتهاكات القانون الدولي الإنساني، والهجمات والأعمال العدائية، بما في ذلك هجمات القناصة، والهجمات الجوية، واستخدام الطائرات العسكرية والطائرات بدون طيار، أو أي أسلحة ثـقيلة، وإطلاق النار على أي طائرة مدنية أو حاملة للعون الإنساني، والتعذيب أو غيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، بما في ذلك العنف الجنسي والعنف القائم على التمييز بجميع أشكاله، واستهداف البنية التحتية المدنية أو المراكز السكانية، والحصول على أو تقوية الدفاعات، أو إعادة الإمداد، أو توزيع الأسلحة، أو الإمدادات العسكرية، بما في ذلك من مصادر أجنبية، ومحاولات احتلال أو احتلال أراضٍ أو مواقع جديدة، بما في ذلك البنية التحتية المدنية أو المراكز السكانية، ونهب أو مصادرة الممتلكات أو الموارد أو الإمدادات الإنسانية، وإعاقة أي رصد أو تحقق لوقف إطلاق النار قصير الأمد، واستخدام المدنيين كدروع بشرية؛ بالإضافة لحظر احتلال المستشفيات ومرافق البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك منشآت المياه والكهرباء والوقود، واحتلال مساكن المدنيين، والإخفاء القسري أو الاحتجاز التعسفي للأشخاص، وأعمال النهب والسلب والتخريب.

كان واضحًا لكل مراقب أن تنفيذ بنود هذا الاتفاق يُعد بمثابة إعلان لاستسلام ميليشيات الدعم السريع وخروجها من المعركة صفر اليدين، لذلك لم تلتزم الميليشيا بالخروج من الأعيان المدنية كالمستشفيات والمرافق العامة، واستمرت في احتلال منازل المواطنين واتخاذ المدنيين دروعًا بشرية، بل ذهبت لأبعد من ذلك في خرق اتفاق جدة باحتلال أراضٍ ومواقع جديدة، ونقل المعارك خارج العاصمة الخرطوم إلى أقاليم السودان المختلفة باحتلال ولايات دارفور وكردفان والجزيرة، وارتكاب أبشع المجازر والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، لعل أشهرها ما ارتكبته الميليشيات في ولاية غرب دافور إثر اغتيالها للوالي خميس عبدالله أبكر والتمثيل البشع بجثته دهسًا بالسيارة ورجمًا بالحجارة وتعليقًا على جذع شجرة، حيث جلبت هذه الممارسات البشعة الإدانات الدولية والعقوبات لميليشيا تعتمد القتل والاغتصاب وترويع الآمنين، والسلب والنهب لممتلكات المواطنين، الذين يفرون فرار السليم من الأجرب من المناطق التي احتلتها ميليشيا الجنجويد إلى مناطق سيطرة الجيش السوداني.
ينتظر النازحون لولايات السودان المختلفة واللاجئون لدول الجوار خروج ميليشيا الجنجويد من دورهم وأحيائهم السكنية بموجب “اتفاق جدة لوقف إطلاق النار قصير الأمد والترتيبات الإنسانية” ليتسنى لهم العودة لحياة طبيعية بعد أن أفقدتهم الميليشيا كافة ممتلكاتهم ومدخراتهم، بينما تسعى الميليشيا لإبرام صفقة واتفاق سلام يعيدها وذراعها السياسي للسلطة والثروة من جديد، ولكن هيهات أن يقبل السودانيون بإعادة إنتاج الأزمة واستمرار وجود جيشين في بلد واحد، مهما هدد ما يُسمى بالمجتمع الدولي باستخدام القوة متعددة الجنسيات أو الاستمرار في دعم ميليشيات المتمردين بالمال والسلاح والإعلام عبر حلفائه الإقليميين.
ليس لدى السودانيين ما يخسرونه أكثر مما خسروه، ورجوع السودان لمحور روسيا الاتحادية والصين الشعبية وإيران الإسلامية هو ثمرة ضغوط السياسة الخارجية الأمريكية التي تكيل بمكاييل عديدة، ولن يستطيع الجنرال عبد الفتاح البرهان المهادن للهيمنة الأمريكية أن يقطع البحر الأحمر ويبرم اتفاقًا جديدًا تتنصل فيه ميليشيا الجنجويد عما التزمت به في اتفاق جدة، فمن الذي يخاطر بكرسيه في السلطة إرضاء لأبناء العم سام؟!! 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مشكور الاستاذ ابراهيم عدل على طرق باب الأزمة وهو يتوافق مع الذكرى المشؤومة لحادثة فض الاعتصام. والحرب مازالت تراوح مكانها، لكن من المؤكد وفقا لمعطيات المنطقة والسابق المثلية فلن يكون ما بعد الحرب نزهة، بل ستبدأ المظاهر الحقيقية لانعكاسات الحرب اللعينة…إعادة الإعمار ستقصم ظهر الشعب المغلوب على أمره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com