الحَجُّ: عبادةٌ، ومنافعٌ، ومآثرٌ..
إنَّ المتأمّلَ في أركان هذا الدِّينِ الحنيفِ الخمسَة التي لا يتحقَّقُ إسلامُ الإنسانِ إلا إذا آمن بها مُجتمعةً، يَلحظُ أنَّها استَغْرَقَت أنواعَ العلاقاتِ التي تقومُ عليها حياة ُالإنسانِ الذي لم تتلوَّث فطرتُهُ، ولم تتغيَّر نفسُهُ عن الهيئةِ التي خلقَهُ اللهُ عليها. تلك العلاقاتُ هي: علاقةُ المسْلمِ الفَردِ بربِّه سبحانَهُ وتعالى، وعلاقتُهُ بذاتهِ هوَ، وعلاقتُهُ بغيْرهِ أفراداً أو جماعاتٍ. فالشَّهادتان والصَّلاةُ والصِّيامُ تُبْنى عليها العلاقةُ بين المسلمِ وربِّه، وبينَهُ وبينَ نفسِهِ. في حين تُنظِّمُ الزَّكاةُ والحَجُّ العلاقةَ بين الأفرادِ، وتقومُ عليهما كذلك العلاقةُ بين الفردِ والجماعةِ؛ بما تُمثِّلُهُ الزَّكاةُ من التَّعاطُفِ والتَّكافُلِ والرَّحمةِ، لتُحَقِّقَ معانيَ الإخاءِ، وتَنْفيَ العُقُوقَ بين أفرادِ المجتمعِ. وبما يتَحقَّقُ في رُكْنِ الحَجِّ من التَّعارُفِ والأُلْفةِ والاجتماعِ، فيَمْحُوَ الفُرُوقَ بين المسلمينَ بمختلفِ أطيافهِم.. ويُرَسِّخُ مفهومَ المساواةِ والعَدْلِ الذي جاءت به الشَّريعةُ الغَرَّاء. وهما ــ الزَّكاةَ والحجَّ ــ إلى ذلك، يمثِّلانِ من خلال تلكَ المَيْزَة فيهما علاقةً وثيقةً مع الرَّبِّ جلَّ في عُلاه.
وقد كان الحَجُّ وما زالَ ينبوعَ سلامٍ، ومثابةَ أمنٍ، تأنسُ فيه الأرواحُ حين تبلغُ موضعَ الإلهامِ، ويسكنُ الوجدان حين يصلُ إلى مهْدِ العقيدةِ ومنشئها؛ وحين تَدْرُجُ الأقدامُ في المشاعرِ المباركةِ، وتخطو على هذهِ الأرضِ السَّماويَّةِ.
كان الحَجًّ وما زالَ معجزةً تتكرَّرُ في كلِّ عامٍ، تُبْهرُ العالمَ كُلَّهُ في يومِ (عَرَفَةَ) سيِّدُ الأيَّامِ، ذلك اليومُ الذي يُباهي اللهُ تعالى بأهلهِ أهلَ السَّماءِ، وكيفَ لا، وفيه يتآلفُ المسلمونَ على البعاد! ويقفونَ سواسيةً حاسِري الرُّؤوسِ خاشِعِي النُّفُوسِ أمامَ الخالقِ سُبحانَه! يدعونَهُ بكلماتٍ واحدةٍ تَلهَجُ بها ألسنتُهُم، وتَصْعَدُ بها أنفاسُهُم كما يَتَصاعدُ البخورُ من مجامرِ الطِّيبِ، ويفوحُ الأريجُ من أكمامِ الزَّهرِ، كُلُّهُم يرجو رحمَةَ ربِّهِ ويخشَى عذابَهُ! يتذكَّرونَ في بُقعةٍ محدودةٍ، وساعاتٍ موعُودةٍ معدودَةٍ، وقفَةَ نبيِّهم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ والأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ من قبلِهِ، في هذا المكانِ الذي اتَّصَلت فيهِ الأرضُ بالسَّماءِ، واكتملَ فيهِ الدِّينُ، وأتمَّ اللهُ فيهِ النِّعمَةَ على عبادهِ المسلمينَ.
الحَجُّ أعظمُ مؤتمَرٍ للإسلامِ والمسلمينَ، تتأَلَّفُ فيهِ القلوبُ في ذاتِ اللهِ، وتبرُزُ فيهِ الأخوَّةُ الإسلاميَّةُ القائمةُ على الحَقِّ، الحَجُّ صورةٌ صادقةٌ للتَّضامنِ.. وما أحوجَنَا جميعاً للتأمُّلِ في غاياتِهِ..! والتَّفكُّرِ في منافعِهِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ..! “ليَشْهدُوا منافعَ لهُم ويذْكُرُوا اسمَ اللهِ في أيَّامٍ معلُوماتٍ…”!
وفي الحَجِّ فقط يقفُ المسلمونَ الذين هوَتْ أفئدتُهُم لأداءِ مناسكِهِ، وحملَتْهُم ركائبُهُم إلى أرضِهِ، يقفونَ على مواطنَ كانت وسوفَ تظلُّ مأرِزَ الدِّينِ القَويمِ، مواطنَ تُوحِي إليهِم بالعزَّةِ، وتُحفِّزُهُم نحو السُّمُوِّ والرِّفعَةِ..
في (حِراء) نزلَ الرُّوحُ الأمينُ بالوحيِ على سَيِّدِ المرسلينَ، وفي (ثَوْرٍ) مآثرُ التَّضحيَةِ وانطلاقةُ المجْدِ، وهنا كانت (دارُ الأرقَم) وليسَ ببعيدٍ عنها كانت أفنيَةٌ احتَبَى فيها (أبو بكرٍ وعمرَ) وذاكَ شِعْبٌ مشَى فيهِ (سعْدٌ وعثمانُ) وهذا ريعٌ حَنَّ إليه (بلالٌ) ذات يومٍ فقال:
ألا ليْتَ شِعْري هل أبيتنَّ ليلةً بِفَخٍّ وحوْليَ إذْخِرٌ وجليلُ !
وتلكَ بطحاءٌ شَهِدَت (لحمزةَ وأبي عُبيْدةَ) وهناك كانت (دارٌ) نامَ فيها (عَليٌّ) ليلةَ الهجْرةِ، (دارٌ) تحكي للأجيالِ أنَّ هذا الدِّينَ دينُ صيانَةِ الأماناتِ وأدائِهَا.. وفي (التَّنْعيم) تتجلَّى قصَّةُ شهيد الشَّباب (خُبَيْب) وكأننا نسمعُهُ يُنْشدُ:
وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإن يشأ يُبارك على أوصالِ شُلوٍ مُمَزَّعِ
فلستُ أُبالي حين أُقتَلُ مُسلماً على أيِّ جنْبٍ كان في اللهِ مصْرعي
وعلى مشارفِ مكَّةَ من ناحيَةِ الغَرْبِ تُطالعُكَ (الحُدَيْبيَةُ) وفيها وبجوارها كانت بيْعَةُ الرِّضْوانِ تحتَ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ كانَ الصُّلْحُ.. وفيها وقَفَاتٌ تُذَكِّرُنا معانيَ: العزيمةِ، والحكْمَةِ، والصَّبْرِ والتَّوَكُّلِ.. وما يتأسَّسُ عليها من جَميلِ العاقبَةِ!
وهذه الكَعْبَةُ المشرَّفَةُ، مركَزُ الكَوْنِ شامخةً تحتَ عرْشِ الرَّحمنِ، تطُوفُ حولَهَا القلوبُ قبلَ الأجسادِ، وتتأمَّلُهَا العيونُ والأرواحُ! فما تَرَى العينُ منظراً أجملَ منها! ولا تُدركُ الرُّوحُ شرفاً هو أعظمُ من شرفِها، ولا شمُوخاً يربُو على شُموخها! وينتصبُ مقامُ إبراهيمَ بجوارهَا منارةً للنُّورِ، ورمزاً للهمَّةِ العاليةِ التي رفَعَت القواعدَ من البَيْتِ الذي تهفُو إليهِ أفئدةُ البَشَرِ ويقصدُهُ القاصدونَ مُحبينَ مُخلصينَ، يرجونَ رحمةَ ربِّهم، ويغسلُونَ الأدرانَ عن أرواحهِم. “وأذِّن في النَّاسِ بالحَجِّ يأتوكَ رجالاً وعلى كُلِّ ضامرٍ يأتينَ من كُلِّ فَجٍّ عميق”.
وبينَ الصَّفَا والمروَةِ يتمثَّلُ مشْهَدٌ (لهاجَرَ) عليها السَّلامُ وهي تسعَى بين الجبلينِ تطلُبُ لوليدِها الذي لا يملكُ من أمرِه شيئاً قطْرَةَ ماءٍ تقومُ بها حياتُهُ! فينظرُ الرَّبُّ الرَّحيمُ الرَّزَّاقُ في صنيعِها.. فيرسلُ جبريلَ عليه السَّلامُ ليَهْمِزَ بجناحِهِ الأرضَ فتنبُعُ (زَمْزَمُ) البئْرُ المباركةُ بأطيبِ ماءٍ وأنفعِهِ؛ ولتكونَ (زَمْزَمُ) آيةً للنَّاسِ من ذلكَ اليومِ وحتى تقومُ السَّاعةُ!
وفي المدينةِ المنوَّرةِ وما حولَها مآثرُ بناءِ دولَةِ الإسلامِ، (أُحُدٌ) جَبَلٌ يُحبًّنا ونُحبُّهُ، وفي سفْحِهِ ينامُ شُهداءُ الجهادِ الذين رَوَتْ دماؤُهُم الزَّكيَّةُ أرضَ الحجازِ، وفاضَت أرواحُهُم النَّديَّةُ في اللهِ وللهِ وحْدَهُ، سَيِّدُ الشُّهداءِ أبو عِمَارَةَ، والفارسُ الذي يمشِي الخُيلاءَ في الحَرْبِ أبو دُجَانةَ، ومُصْعَبٌ تَرَكَ الدُّنيا وزينَتَها ابتغاءَ رضْوانِ اللهِ؛ ليُدْفَنَ ولمَّا يجدُوا له كفناً يُغطِّي سائرَ جسَدِه! وفي (قباء) أوَّلُ مسجدٍ أُسِّسَ على التَّقْوى، وغيرَ بعيدٍ بقايا (للخَنْدَقِ) تفوحُ فيه ذكْرى (سلْمان) وتلوحُ منهُ قاعدةُ الأخذِ بالأسبابِ، وتَبْرُقُ قُدْرَةُ اللهِ في صَنيعِهِ بالأحزابِ!
وقلبُ طَيْبَةَ الطَّيِّبَة مسجدُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، مركَزُ البناءِ للإنسانِ والدَّولةِ.. فيه ــ دونَ غيرهِ ــ روضةٌ من رياضِ الجنَّةِ، وفيه الحُجُرات الشَّريفةُ، ومثواهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مع صاحبَيْهِ الجليلَين ِرضيَ اللهُ عنهُما، وليسَ (البَقيعُ) ببعيدٍ، حيْثُ يرْقُدُ الغَطَاريفُ من المهاجرينَ والأنصارِ، خُلفَاءُ الدَّعْوَةِ، وحواريُّو النُّبُوَّةِ رضيَ اللهُ عنهُم.
كُلُّ تلكَ المشاهِد وغيرها كثيرٌ ترنُو إليها أعيُنُ الحُجَّاجِ، وتتوقُ إليها نفوسُهُم في رحلَةِ الحَجِّ المباركَةِ، ثمَّ تَقَرُّ برؤيتهَا، وتداعي الذِّكرياتِ التي تُثيرُها فيهم، فيطيبُونَ نفسا بإدراكِ ما تَمنَّوا، وبُلوغِ ما أرادُوا بفضلٍ من اللهِ.
ثُمَّ إنَّ لهذهِ البلادِ المباركةِ وحكومتِها الرَّشيدةِ وقيادتِها الحكيمةِ فضلاً هو من نعَمِ اللهِ علينا وعلى بلادِنا، حيثُ يسَّرَت ــ بتوفيقِ اللهِ ــ للحُجَّاجِ والزُّوارِ والعُمَّارِ الوصولَ لهذهِ الدِّيارِ المقدَّسَةِ، والتَّطْوافَ بهذهِ المشاعِرِ، والوقوفَ على تلكَ المآثرِ الخالدَةِ والمواقعِ المباركةِ..
نَعَم، هذهِ هيَ المملكةُ العربيَّةُ السُّعوديَّةُ التي مكَّنَ اللهُ لقيادتِها في الأرضِ، وسَخَّرَ لهُم من خيراتِها ما يخدمونَ بهِ المسلمينَ من كُلِّ فِجاجِ الوسيعَةِ وأقطارِ البسيطةِ.. فاتَّخَذُوا خدمةَ ضَيْفِ الرَّحمنِ شرفاً وواجباً، وقاموا به على أكملِ وجهٍ وأبهى صُورةٍ، ولا يزالونَ يعملونَ في كُلِّ ساعةٍ على إثراءِ تجربَةِ الحاجِّ والمُعتمِرِ والزَّائرِ، ويخلُقونَ المبادرَةَ تلوَ المبادرةِ لتذليلِ كُلِّ الصِّعابِ التي قد تعترضُ طريقَ رحلتهِ، أو تؤثِّرُ على أدائهِ لنسُكهِ على الوجْهِ الذي يُحبُّ، بل حرصُوا على أن يكونَ أداؤُه لنسكهِ ماتعاً، وفوقَ الذي كانَ يرجوهُ أو يتخيَّلهُ..
وهذهِ مبادرةُ (طريق مكَّة) تنجحُ، ثمَّ تتَّسعُ ليخرجَ الحاجُّ من (جاكرتا أو كراتشي أو أنقرةَ أو وهران..) حتى يصلَ إلى حيثُ يقْصِدُ في مكَّةَ المكرَّمةَ أو المدينةِ المنوَّرةِ لا يحملُ متاعاً ولا يخشى عليهِ؛ فمتاعُهُ يُنْقَلُ ويصلُ إلى محَلِّ إقامتهِ قبلَ أن يصلَ هوَ!
وتلكَ الطُّرقُ الآمنةُ الفسيحةُ السَّريعةُ، والقطاراتُ الحديثةُ، والحافلاتُ الآمنةُ تُقلُّهُم حيثُ تكونُ وجهتُهُم.. والعنايةُ بصحَّةِ الحجيجِ رسالةٌ نبيلةٌ، وهدفٌ لا بُدَّ لهُ أن يتحقَّقَ: توعيةً ورعايةً وعنايةً في كُلِّ محطَّةٍ ينزلُ فيها الحاجُّ والمعتمِرُ على سبيلِ المرورِ أو الإقامةِ! ومن يعرضُ لهُ منهُم عارضٌ صحيٌّ يجدُ العلاجَ النَّاجعَ بإذنِ اللهِ، والاهتمامَ البالغَ من مئاتِ الأطبَّاءِ والممارسينَ الصِّحيِّينَ أيَّا كانَ العارضُ، ومهما بلغَت تكاليفُ علاجِهِ! ولن يقفَ الأمرُ عندَ هذا الحَدِّ، فإذا احتاجَ للرَّاحةِ الطِّبيَّة وعدمِ الحركة، وخشيَ على فوْت النُّسُكِ، وجَدَ من يحملُهُ في المشاعرِ كلِّها ليؤديَ فريضتَهُ على الحالِ التي هو عليها!
ولو شِئْنا عَدَّ الخدماتِ التي تُقدِّمُها بلادُنا أعزَّها اللهُ لضيوفِ الرَّحمنِ ما استطعنا أن نُحْصيَهَا؛ لأنَّها تشملُ كُلَّ احتياجاتِ الحاجِّ والمعتمرِ والزَّائرِ، حتى تلكَ التي قد لا يجدُها في مسْقطِ رأسِهِ الذي خرجَ منه قاصداً حجَّ بيتِ اللهِ!
نعم هذه بلادُنا، خيرٌ عميمٌ وظلالٌ وارفةٌ وأمنٌ وأمانٌ وطُمأنينةٌ.. وهؤلاءِ هم قادتُها الغُرُّ الميامينُ، عقيدةٌ نقيَّةٌ، واعتدالٌ ووسَطيَّةٌ في المنْهَجِ، وصدارَةٌ ومُبادرةٌ وتميُّزٌ في العطاءِ والبذْلِ.. لكُلِّ من تطأُ قدماهُ ثرى هذهِ الأرضِ المباركة، فكيفَ به وهو الحاجُّ أو المعتمرُ؟!
وهذا هُو الحَجُّ، الرُّكْنُ الخامسُ في أركانِ الإسلامِ، إعْلاءٌ لشأنِ الملَّةِ، ومُفتاحٌ لجمْعِ الكلمَةِ، وسبيلٌ لتحقيقِ الوَحْدَةِ التي نَتُوقُ إليهَا.
نَحْمَدُ اللهَ الذي كفانا وآوانا في هذا الوطنِ العزيزِ، ونسألُهُ جلَّ في عُلاهُ أنْ يُيَسِّرَ للحُجَّاجِ حجَّهُم، ويتقبَّلَ عنهُم صالحَ القولِ والعمَلِ، وأنْ يحفظَهُم من كُلِّ سُوءٍ.. كما نسألُهُ تعالى أنْ يباركَ جهودَ القائمينَ على خدمةِ الحجيجِ في: أمنهِم وصحَّتهم وجميعِ احتياجاتهِم.. في يُسْرٌ وطُمأنينة.
كما نَبْتَهِلُ إلى المولى عزَّ وجلَّ أنْ يباركَ في عُمُرِ وعمَلِ خادِمِ الحرميْنِ الشَّريفيْنِ ووليِّ عهْدِهِ الأمين، وأنْ يجزيَهُم عن الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاءِ.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ؛؛؛
مكة المكرمة في يوم السبت 2 من ذي الحجة المصادف 8 يونيو 2024م
الله يعطيك العافية ويصلح لك الحال والحلال والنية والذرية أخي العزيز الأستاذ:محمد أحمد عمير مدخلي فقد أجدتَ في هذا المقال الرائع الشامل.حفظ الله قادتنا وبلادنا من كل مكروه.