سأل جلال الدّين الرّومي شمس الدّين التّبريزي: “كيف تبردُ نار النَّفس؟ قال: بالاستغناء، استغنِ يا ولدي فمن تَركَ مَلَكْ. والاستغناء غنى.
ظُلم هذا المصطلح كثيراً، وأُوهن خيطه وجُيّر لصالح علاقات محددة، وقُيّد عامّه، وحُصِر فضاؤه، مع أنَّه في الحقيقة وفي دارج أربابه شموليٌ يأخذ منحى وأسلوب حياة أكثر من أنَّه وسيلةٌ للانعتاق من شعورٍ سيءٍ أو حالةٍ نفسيةٍ معينة.
يقوم الاستغناء على مبدأ التّرك، ولا يكون التّرك إلا بضعف هيئة المطلوب وإن كان ممكناً، والفائت وإن كان مرسوماً في واقع حلَّ وضلَّ وكان ثم انتهى.
مما قيل “الاستغناء سيد الفضائل” ولعلَّ فضيلته في أثره، وما يعود عليك به، وما يهبك من قوةٍ خارقةٍ تجاه محيطك بكلِّ ما فيه، ليجعل منك قوةً تأبى الانصياع فتهديك عدسة النّظر الجديد.
هذه العدسة بتوافق الرّوح مع تلك الفضيلة تعطي انطباعاً جديداً للحياة ولتفاصيلها الدّقيقة، والّتي رغم دقتها إلا أنَّها وبدون تلك الفضيلة محطةٌ تطول ولا تزول، وتفري ولا تدري، وتهدد بالانقطاع رغم حالة الجمال في ذلك الانقطاع، ولعلَّ النَّفس البشرية واهنةٌ جداً أمام الجديد؛ خاصةً ما قام على موجودٍ انحرفت ملكيته، ومملوكٍ سبق عليه القول بخسارته.
هنا يأتي دور الاستغناء ليحرر كلمته الباقية، وسلطانه المتمكن، ولا يكون فيما حكره العالَم حول العلاقات، وما يدندن حوله النّاس في مساقات الحب، بل هذه الأداة غرضها أعم بكثيرٍ مما نعرف، وتقويمها للرّوح أكثر استطالة، ولو قلنا في كلِّ شيءٍ لم تكن مبالغة. وبقدر ما نعممها بقدر ما نثبّت أقدامنا في باحة الرّاحة، وساحة النّجاح وجسر العبور نحو ابتسامة الداخل.
كثيراً ما يُربط الاستغناء بالتّرويض، وفي هذا دلالةٌ على الصّعوبة من جهة، وعلى النّتيجة من جهةٍ أخرى، ومتى تجاوزنا مرحلة التّرويض بنجاحٍ نجحنا في الوصول للغاية الّتي قامت على تحديات، وما دامت تحمل التّحديات فحتمية البغية السّامية متحصلةٌ بالضّرورة.
لسنا هنا لحصر ما يحتمل الاستغناء وما لا يحتمل، ولكن بالضّرورة نهيب باستعماله تجاه كلِّ ما يحتمل، وحياتنا بطبيعتها قائمةٌ على العادات، ولك أن تتخيل حجم تلك العادات على طاولة الاستغناء، بل وأكثر من هذا ما يخص منطقة الرّاحة الّتي اعتدنا عليها، وكيف هو الواقع والمستقبل في حال تم الاستغناء عنها وتجاوزها وتحقيق التّرك بالكُلية، ورغم صعوبته إلا أنَّها خطوةٌ تستحق.
ختاماً.. حتّى حرفك الّذي تظلمه أحياناً بربطه بالآخر جرب أن تسوسه بفلسفة الاستغناء، ربما سيكون أطول عمراً وأكثر حظاً من حرفٍ مُستغنٍ عن الاستغناء.