ما الَّذِي تُخَبِّئُهُ مُطَّوَّلّةُ “لَوْ أَنَّهُمْ جاؤُوكَ” للشَّاعِرِ عبدِ العزيزِ خوجه؟
لَعَلَّها مِدْحَةٌ نَّبَوِيَّةٌ لِّشاعِرٍ اشْتَهَرَ بهذا اللَّوْنِ الحبيبِ مِنَ الشِّعْرِ؟
لَكِنَّ في القصيدةِ شيئًا آخَرَ غَيْرَ المِدْحَةِ والتَّوَسُّلِ، شيئًا يُخَبِّئُهُ عُنْوَانُها المَهِيبُ “لَوْ أَنَّهُمْ جاؤُوكَ”، وعَسَاهُ يَمَسُّكَ بِغَيْرِ قليلٍ مِّمَّا ستقرأُهُ فيها، قَبْلَ أنْ تَشْرَعَ في القصيدةِ المُطَوَّلَةِ، وستُدْرِكُ أنَّ ما في العُنْوَانِ مِنْ جَلَالٍ إنَّما مَصْدَرُهُ البلاغةُ القُرْآنِيَّةُ الَّتي يُؤَدِّيها قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ]وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرُوا الرَّسُولَ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا[ [النِّساء: 64]، ولَعَلَّكَ تَحْدِسُ بِمَا في الآيةِ الكريمةِ – ومِنْ ورائِها القصيدةُ – مِنْ ظِلَالِ المَعْنَى الَّذي أَدَّتْهُ إلينا كَلِمَةُ “لَوْ”، وسنُدْرِكُ أنَّ في المَبْنَى ما يَدُلُّ عَلَى المَعْنَى؟
يُسَمِّي النَّحاةُ “لَوْ” هذهِ بِـ “لَو” الامتناعِيَّةِ، ويُعَرِّفُونَها فيَقُولُونَ: إنَّها حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِّامْتِناعٍ. أَيْ أنَّها “تَدُلُّ عَلَى امتِناعِ الثَّانِي لامْتِنَاعِ الأَوَّلِ”، فَلَوْ تَحَقَّقَ المَجِيءُ إلى الرَّسُولِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – لَتَحَقَّقَتِ التَّوْبَةُ والرَّحْمَةُ، ولَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِيئُوا! عَلَى أنَّ تَحَقُّقَ الثَّانِي مُمْكِنٌ ومُتَاحٌ ما تَحَقَّقَ الأَوَّلُ، ولَيْسَ مُمْتَنِعًا امْتِناعًا تامًّا، فإذا أَقْبَلْنا عَلَى مُطَوَّلَةِ عبدِ العزيزِ خوجه عَرَفْنا أنَّ مَعْناها يَظْهَرُ لَنَا في عُنْوانِها الَّذِي تَصَدَّرَهُ حَرْفُ “لَوْ”، وكأنَّهُ يَنْطَوِي عَلَى غَيْرِ قليلٍ مِّنَ التَّحَسُّرِ عَلَى أولئِكَ الَّذِينَ فَوَّتُوا تَحَقُّقَ الثَّانِي لامتِناعِ الأوَّلِ، ما دامَتِ الآيةُ القُرْآنِيَّةُ الكريمةُ مُتَصَوَّرَةً في الأذهانِ، ورُبَّما شَفَّ العُنْوانِ عَلَى قَدْرٍ مِّنَ التَّمَنِّي، أوِ التَّرْغِيبِ، أوِ الْحَثِّ عَلَى المَجِيءِ!
ويَظْهَرُ لِي أنَّ مُطَوَّلَةَ عبدِ العزيزِ خوجه اجتمَعَ لَهَا شَرْطُ الشِّعْرِيَّةِ، بهذا العُنْوَانِ القُرْآنِيِّ المَهِيبِ، قَبْلَ أن نَّنْشَطَ لِقِرَاءَتِها، وأَدَّتْ فيها “لَوْ” – هذهِ الصَّغِيرةُ – ما سَتُؤَدِّيهِ القصيدةُ بِتَمَامِها، وكأنَّها هِيَ إيضاحٌ لَّها، وحاشِيَةٌ عَلَيْها.
ما أرادَ عبدُ العزيزِ خوجه لقصيدتِهِ هذهِ أنْ تَكُونَ “مِدْحَةً” كَمَا تَعَوَّدَ، مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، وأَحْسَبُ أنَّ الشَّاعِرَ الَّذي جُبِلَ عَلَى أن لَّا يُؤْذِيَ بِشِعْرِهِ أَحَدًا، والَّذي أَحَبَّ مِنْ ألوانِ الشِّعْرِ ما اتَّصَلَ بالحُبِّ والمَرْأَةِ والْجَمَالِ = كأنَّما أَيْأَسَتْهُ أُمَّةٌ هُوَ واحِدٌ مِّنْ أبنائِها، وتَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ ما مِنْ سَبِيلٍ لِّاستنقاذِها مِنَ الوَهْدَةِ الَّتي تَرَدَّتْ فيها إلَّا بأنْ تَجِيءَ إلى “بابِ النَّبِيِّ”، فَثَمَّ “بابُ اللهِ”، تَسْتَغْفِرُ اللهَ، فيَسْتَغْفِرُ لها الرَّسُولُ، وعِنْدَئِذٍ سيَجِدُونَ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا!
والقصيدةُ لا تُعَيِّنُ لنا المَقْصُودِينَ بضميرِ جَمَاعَةِ الغائِبِينَ في عُنْوَانِها “لَوْ أنَّهُمْ جاؤُوكَ”، ولَن يستخفِيَ عَلَى القارِئِ اللَّبِيبِ أولئكَ “الغائِبُونَ” الَّذينَ تأَخَّرُوا عنِ المَجِيءِ فحُرِمُوا التَّوْبَةَ والاستغفارَ، وإذا أردْنا أن نُّلِمَّ بشيْءٍ مِّنَ السِّيَاقِ، عَسَاهُ يُتِيحُ لَنا بَصَرًّا أَحَدَّ، قَدَّرْنا أنَّ توقيعَ الشَّاعِرِ في خِتامِ قصيدتِهِ دالٌّ عَلَى ذلكَ المَعْنَى، فالشَّاعِرُ ما وَقَّعَ مُطَوَّلَتَهُ في المسجدِ النَّبَوِيِّ الشَّريفِ، ولا في الرَّوْضةِ المُشَرَّفَةِ، وإنَّما وَقَّعَها في أَقْصَى الأرضِ؛ في موسكو، وكأنَّما استبانَ للشَّاعِرِ السَّفِيرِ، وهُوَ في أَوَّلِ عَهْدِهِ بالسِّياسَةِ والسِّفَارَةِ، ما دَعَاهُ إلى أن يختصِرَ عَلَى الزُّعماءِ والقادةِ والسَّاسةِ في أُمَّتِهِ المغلوبةِ عَلَى أَمْرِها = الحَلَّ النَّاجِعَ لِمَا فيهِ أوطانُهُمْ، وكأنَّهُ يُطْنِبُ فيما اختصَرَهُ، مِنْ قَبْلِهِ، أحمد شوقيّ في قَوْلِهِ:
فَلَمْ أَرَ غَيْرَ حُكْمِ اللهِ حُكْمًا وَلَمْ أَرَ غَيْرَ بَابِ اللهِ بَابَا
كانَتْ قصيدةُ عبدِ العزيزِ خوجه كُلُّها في عُنْوَانِها، وكانَتْ أبياتُها بِمَنْزَلَةِ تَفْصِيلِ ما أُجْمِلَ، وكانَتْ عاقِبَةُ التَّخَلُّفِ عَنِ المَجِيءِ أنْ أُسْلِمَتْ إلى دُرُوبِ الضَّيَاعِ، والشَّتَاتِ، والهَزِيمَةِ، وأَبْرَزَتْها صُوَرُها واستعاراتُها وتشبيهاتُها وأَخْيِلَتُها.
لَخَّصَ الشَّاعِرُ السَّفِيرُ، في تَقْرِيرٍ شِعْرِيٍّ، حالَ الأُمَّةِ، فأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَوْ أَنَّهُمْ جَاؤُوكَ
مَا شَدُّوا رِحَالَهُمُ إِلَى جِهَةِ الضَّيَاعْ،
لَوْ أَنَّهُمْ..
مَا تَاهَ رُبَّانٌ لَّهُمْ
أَوْ ضَلَّ فِي يَمٍّ شِرَاعْ
طَيْرٌ أَبَابِيلٌ عَلَى الْكَفِّ المُضَمَّخِ بِالضَّحَايَا
فِي صَلَاةٍ لَّمْ تَصِلْكَ لِأَنَّ فِيهَا مَا يُعَدُّ مِنَ الْخَطَايَا
فِي خُوَاءِ الرُّوحِ حِينَ تَدُكُّهَا خَيْلُ الْمَنَايَا
أَنْقَاضُ مَجْزَرَةٍ عَلَى جُثَثِ السَّبَايَا
فِي صَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ
ضَاعَ فِي أَحْجَارِ مَقْبَرَةٍ مُّدَمَّرَةٍ
عَلَى قَلْبِي شَظَايَا
***
طَيْرٌ أَبَابِيلٌ عَلَى أَفْيَالِ أَبْرَهَةٍ تَجُوبُ مَآذِنَ الأَقْصَى
لِمَنْ فِي الأَرْضِ تَعْرُجُ رُوحِيَ الثَّكْلَى؟
وَمَنْ سَيَرُدُّهَا جَذْلَى إِلَيَّ؟
وَإِخْوَتِي
ذِئْبٌ يَشُقُّ قَمِيصِيَ الْمَذْبُوحَ
ثُمَّ يَطُوفُ أَرْضَ اللهِ
كَيْ يَبْكِي عَلَيَّ
وفي القصيدةِ ما يَدُلُّ عَلَى أنَّ الشَّاعِرَ – ورُبَّما السَّفِيرُ كذلكَ! – استيأَسَ الفَلَاحَ، ولَمَّا يَمْضِ طَوِيلًا في قصيدتِهِ، وسَرْعانَ ما آبَ إلى شأْنِهِ، فانْصَرَفَ إلى خاصَّةِ نَفْسِهِ، والْتَأَمَ شَمْلُهُ في حَلْقَةِ ذِكْرٍ دائِرِيَّةٍ، لَيْسَ فيها مِنْ كلامٍ إلَّا اسْمُ اللهِ الأعظَمُ، تَلْهَجُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، فعَسَى أن يُدْنِيَهُ إلى الرَّسُولِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يَجِيئُهُ مُسْتَغْفِرًا، فيستغفِرُ لَهُ اللهَ، فيَجِدُ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا
اللهُ يا أللهُ!
لَوْ أَدْنُو قَلِيلًا مِّن مَّدَاهْ
اللهُ يَا أللهُ!
لَوْ تَرْفُو تَمَزُّقَ نَفْسِيَ الأُولَى رُؤَاهْ
اللهُ يَا أللهُ!
لَوْ ضَمَّخْتُ قَلْبِي مِنْ شَذَاهُ وَمِنْ سَنَاهْ
اللهُ يَا أللهُ!
لَوْ تَدْنُو، إِذَنْ، مِنِّي يَدَاهُ
لَتَفَجَّرْتْ رُوحِي مِنَ الصَّوَّانِ سَهْلًا مِّن مِّيَاهْ
وفي “لَوْ” هذهِ سِرُّ الفَلَاحِ والنَّجَاحِ؛ فَلَاحُ نَفْسِهِ إن لَّمْ يَتَحَقَّقْ فَلَاحُ أُمَّتِهِ، فعَسَاهُ – وعَسَى هذهِ الْحُشُودُ المُتَعَلِّقَةُ بِرَسُولِها الَّذِي هُوَ “بابُ اللهِ” – أن لَّا تَرْجِعَ خائِبَةً
هَذِي الْحُشُودُ أَتَتْكَ، مِثْلِي، رَاعِشَاتٍ بِالدُّمُوعْ
خُذْهَا إِلَيْكَ…
فَإِنَّهَا فِي ذَنْبِهَا تَخْشَى الرُّجُوعْ
فِي ذِكْرِ مَوْلِدِكَ العَطُورِ تَسَابَقَتْ مُهَجُ الْجُمُوعْ
خُذْهَا إِلَيْكَ…
وَشُدَّهَا، يَا سَيِّدِي، مِن رِّبْقَةِ اليَأْسِ الْخَنُوعْ
خَلَعَ عبدُ العزيزِ خوجه عَبَاءَةَ السَّفِيرِ، واستعارَ خِرْقَةَ المُتَصَوِّفِ ولِسَانَهُ، وأَهَمَّهُ خَلاصُ نَفْسِهِ، وكأنَّهُ انتهَى إلى ما انتَهَى إليهِ أبو حامِد الغَزالِيُّ، قَبْلَ قُرُونٍ، مِنْ أنَّ إصلاحَ النَّفْسِ هُوَ الطَّريقُ المُوْصِلَةُ إلى إصلاحُ الأُمَّةِ، وأنَّ عَلَيْهِ أن يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ إنْ أَعْجَزَهُ إصلاحُ الآخَرِينَ.
0