ارتبطت مكة المكرمة بشبكة واسعة من طرق الحج من مختلف جهاتها خلال عصرها الإسلامي والحديث كما هو الوقت الحالي، وكان تعدد هذه الطرق ناتجًا عن دعوة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- حينما أمره ربه في قوله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)؛ فأتى الحجاج ملبين الدعوه مُشاة وركبانًا زرافات ووحدانًا من كل فُجاج الأرض ونواحيها.
وكان من أهم طرق الحج ومساراتها التي سلكها الحجاج والمسافرون انطلاقًا من وادي يلملم باتجاه مكة المكرمة وما حولها الدروب والمسالك المتفرعة من طرق حجاج أهل اليمن وأهمها:
أولًا: طريق الحج اليمني السلطاني أو التهامي: كان يسلكه سلاطين اليمن، ويسير بملاصقة جبال السراة وحواضنها، ويأتي من ناحية ميقات السعدية إلى محطة البيضاء، ومنها يتفرع الطريق إلى :
أ- طريق باتجاه عرفة، ويُسمى طريق المعرفات، ويقطع وادي ملكان ثم وادي أم دوحة ثم وادي نعمان عبر موقع جامعة أم القرى اليوم وصولًا إلى عرفة على الإبل؛ ولهذا نسب لها فسُمي بدرب المعرفات.
ب- طريق عبر ملكان إلى كبيدات ثم ريع بشيم في سلسلة جبل كساب ثم وادي رواحة باتجاه مكة المكرمة، وقد يسير بعض الحجاج مع الفجيج إلى وادي عرنة، وعودًا على ذي بدء فإن الطريق السلطاني الرئيسي يتجه شمالًا من البيضاء باتجاه مكة المكرمة عبر الفاتح إلى شرفة عبدالإله ثم الآبار العمي، وهناك طريق آخر من شرق جبل أشيهم إلى وادي ملكان ثم إلى أرض الفلة (أصلها من الفلاة)، ومن بعدها ينشطر الطريق الرئيسي إما مع :
1- البيبان أو المداخل فأرض نعيلة ثم وادي عرنة عرضًا إلى العكيشية ثم إلى المسفلة نحو المسجد الحرام.
2- أرض العايضية إلى نعيلة ثم ريع مهجرة (فج مبعر) ثم وادي عرنة عرضًا؛ حيث الوتير ماء خزاعة وهناك يتفرع الطريق إلى:
أ- ريع نخيلة ثم ثنية ابن كرز أو من الحسينية (السيح) إلى السلفين إلى ثنية كدي ثم المسفلة، وهذا الطريق يُسمى طريق عرنة، وهو طريق حيوي اليوم في أكثر أجزائه.
ب- طريق باتجاه المشاعر، وينطلق من دبل المانعية في البرانية ثم ذو مراخ إلى حي العوالي باتجاه المشاعر إلى وادي محسر، ومن هناك إلى مزدلفة ومنى.
وإلى جانب ما سبق فهناك من طرق الحج القديمة الواقعة جنوب مكة الطريق إلى ضيم، وكثيرًا ما تسلكه قبيلة هذيل والمسافرين وغيرهم ثم وادي ملكان إلى الدريحية ثم محرقة ثم ريع المبيت، ومنه ينقسم الطريق إلى فرعين أحدهما يتجه شمالًا إلى أرض القرعاء ثم وادي نعمان وعرنة ثم إلى عرفة أو العابدية، والآخر يذهب مع وادي رواحة، ويلتقي بطريق ريع بشيم ثم يسير عبر وادي عرنة إلى حي العوالي ثم النسيم (وادي محسر قديمًا) ثم العزيزية الحالية.
وهذا الطريق لا يزال يعمل وتم تطويره، ومثله اليوم طريق الحسينية العام والطريق المؤدي إلى ملكان وضيم، وكان هناك طرق عرضية أخرى كانت تخدم التجارة والحج، وتقطع وادي نعمان عرضًا في أقصى جنوب شرق مكة المكرمة، ومن أهمها طريق وادي رهجان وأعلاه يبدأ عبر الشفا ثم ريع محرم إلى المحضرة ثم نزولًا إلى جبل مأبد ثم عبر وادي رهجان أحد روافد وادي نعمان ثم إلى عرفة أو السير باتجاه ريع وسيق في سلسلة جبل كبكب شمالًا إلى أرض المغمس وسوق ذي المجاز.
ثانيًّا: طريق اليمن الساحلي: يأتي بمحاذاة البحر الأحمر عبر الساحل، ويتفرع هذا الطريق باتجاه مكة المكرمة بالقُرب من جبل سطاع إلى طريقين :
1- طريق يمر بماء مجنة (غير سوق مجنة الجاهلي) في حوض جبل سطاع ثم إلى أرض القرو، ومنها إلى ديار خزاعة، ويلتقي مع طريق الحج السلطاني اليمني عند حدود الحرم بمكة.
٢- طريق يأتي من جهة خشم نمرة إلى وادي ملكان ثم وادي عرنة ثم عُمق إلى آبار كنانة ثم إلى مكة المكرمة عبر وادي إبراهيم مع أقصى جنوب غرب مكة المكرمة، وكانت قديمًا تلك الجهة لخزاعة، ومع هذا الطريق خرج النبي في هجرته إلى المدينة.
والواقع أن هذه الطرق اتسمت بخصائص ومميزات منها أنها سهلة المسلك وتتسم بتجنبها للجبال والأماكن الوعرة بقدرالإمكان، وتأخذ المسافات الأقصر باتجاه مكة المكرمة هذا فضلًا عن مرورها بأماكن المياه كالآبار والعيون والينابيع منها: بئر الحسنية بالقُرب من طريق الخواجات (طريق غير المسلمين)، ومنها ينابيع ريع المبيت؛ حيث كان المسافرون ينامون عندها، وقد شاهدت مسايل تلك المياه وأنا طفل صغير، وكذلك دبل المانعية القادم من عين الحسينية؛ حيث كانت تشرب منه المواشي وأيضًا عين البغدادية، وهي عبارة عن بئر تقع وسط وادي عرنة في مزرعة الشريف منصور آل غالب حاليًا، وكذلك عين ماء كانت في بطن وادي نعمان بأرض الصحن (في داخل جامعة أم القرى) وبئر قديمة جدًّا أم قرون بطرف مزرعة الحسينية وبئر الجفالي على طريق الخواجات من جهة العكيشية لخدمة المارة والرعاة، وبعض هذه المياه قديم النشأة والآخر حديث في تكوينه.
وكانت هذه المصادر المائية سببًا في نشأة اتجاهات طرق الحج التاريخية وأهم محطات التوقف للشرب والسقيا؛ حيث يرد عيها أهل الماشية من الغنم والإبل والسكن المجاورين كما يرد عليها المسافرون وغيرهم من أبناء وعابري السبيل.
والحقيقة تميزت طرق الحج بوجود مجموعة من المرافق والخدمات عليها لخدمة حجاج بيت الله الحرام الغرباء والتجار وأهل تلك الديار كما هو في وادي البيضاء؛ حيث لا يزال يوجد بها آثار بناء دكاكين البيع والشراء وبئرها المعطلة دلالة على أهميتها وتوافد كثير من الباعة والمسافرين والحجاج إليها في زمن مضى؛ حيث عاصرها سكان تلك الجهات وقاصديها.
ومن هنا نستطيع القول: إن مسارات ومسالك الحج في جنوب مكة المكرمة ساهمت في خدمة الحاج والمقيم والتاجر في تحركاته وتنقلاته ومأكله ومشربه كما ربطت بين مكة المكرمة وجهاتها الجنوبية من خلال نشاط الرعي والزراعة والصيد بأرض الساحل نحو شامة وطفيل وغيرها من تلك البقاع التي اشتهرت بخصوبة أراضيها وجودة محاصيلها ووفرة صيدها وعذوبة مائها مثل: السعدية ميقات أهل اليمن وبئر أدام الواقعة على طريق الحج اليمني الرئيس، وقد توقف عند كل منها ونهل من معينها العذب عدد لا يحصى من خلق الله من الحجاج والمسافرين من العلماء والأمراء والشعراء والقادة وغيرهم من سكان تلك الجهات والقوافل التجارية وأصحاب الماشية والتجار والسفار والعمار؛ حيث كانوا يتحركون من مكان إلى آخر عبر هذه الطرق التاريخية لقضاء مصالحهم، وتدبر أمر معيشتهم والذهاب إلى مكة المكرمة واليمن؛ خاصة أن هذا الطريق يؤدي إلى سوق حباشة آخر الأسواق العربية تهدمًا ناحية وادي قنونا الذي أتاه النبي؛ فلا شك أنه قصده مع طريق الحج التهامي.
والحقيقة الحديث يطول عن هذه المسالك والطرق ومعالمها ومراففقها وأحداثها في الأزمنه الماضية، وفيما ورد مؤونة وزاد فتزودوا وخير الزاد التقوى وصلاة ربي وسلامه على جدي المصطفى أزكى الصلوات وأتم التسليم.
1
مقالة غنية بمعلومات قيمة لم يسلط عليها الضوء ويجهلها الاعلام شكراً ياخالد