القارئ والمتأمّل في سنن الله ونظريات تفسير التاريخ، يقف على حقائق مذهلة حول أدبيات التغيير الفعّال في مجريات الأحداث، وهذا ما يرصده كل باحث مُحايد، لم تأسره الأجندة، وتجندل فكره وقلمه المحاور، ولم يتورط في التهميش أو المبالغة بالمدح والتطبيل لقبيل دون آخر، وأقرب مثال على ذلك تنزيل سنن الله الكونية والقدرية والشرعية، ونظريات تفسير التاريخ وفلسفتها لهو دليل لا يقبل المماحكة على حال الجزيرة العربية المأسوي منذ انتقال الخلافة الراشدة إلى الكوفة؛ حيث ضعفت وانحسرت وتراجعت مكانة الجزيرة العربية كثيرًا؛ إذ عاشت أشرف البقاع انحسارًا واضحًا طال الكثير من الاتجاهات وعمّ الجزيرة العربية بكاملها، وتعاظم ذلك كثيرًا بعد انـتـقال الخلافة إلى دمشق ثم إلى بغداد ثم إلى القاهرة.. إلخ، وفقدت الجزيرة العربية الزعامة السياسية والدعوية والحضارية، وانتـقلت إلى طور التبعية المطلقة بما في ذلك المدينة ومكة (شرفهما الله)، وازدادت أحوالها سوءًا بعد القرن الثالث الهجري، وألمَّ بمكة والمدينة من الأحداث المأساوية ما يندى لها الجبين، مثل: حادثة الحرة بالمدينة، وهجوم القرامطة على مكة في القرن الرابع الهجري، وانحصر الاهتمام المحدود بمكة والمدينة في موسم الحج والطرق المؤدية إليهما، وعادت باقي بقاع الجزيرة إلى دركات التخلف، والأمية، والفقر، والحروب الدموية، وأصبحت المدينتان المقدستان تتلقيان المساعدات والصدقات من بعض المحسنين الأثرياء في حواضر العالم الإسلامي، الذين تداعوا إلى تأسيس الأوقاف الخيرية وحبس ريعها على أُهيل مكة والمدينة، وخاصة من المجاورين منهم، أو على طائفة من أهل بلدان الواقفين، ولا يمكن تجاهل أيدي بعض ملوك الدول الإسلامية المحسنين في عمارة المسجد الحرام والمسجد النبوي وطرق الحج؛ حيث يحظى أقوى زعيم دولة إسلامية آنذاك، بالدعاء له على أعواد منبري المسجد الحرام والمسجد النبوي، ورغم ذلك كله كان الأمن الغذائي محدودًا للغاية، وفي الغالب يكون مفقودًا ومنقطعًا في أحايين كثيرة، أما عنصر الأمن السياسي بعمومه، فظل مضطربًا في أحيانٍ كثيرة، حتى سارت مقولة طارت بها الركبان عبر القرون اللاحقة تقول عن الحاج: (يحج مفقودًا ويعود مولودًا)، ولم تسلم من ذلك المدنيتان المقدستان؛ حيث تُغلق أبوابهما مساءً على نمط سائر الحواضر والقرى العامرة في طول الجزيرة العربية وعرضها، بسبب الخوف الشديد المفزع، واحترازًا من الهجمات المباغتة…. وقد يصل الحال إلى الغزو المباشر لمكة كما فعل القرامطة في القرن الرابع؛ حيث هدموا الكعبة، ودفنوا زمزم، وقتلوا الحجاج في المشاعر وفي فجاج مكة، وحملوا معهم الحجر الأسود، وأما قطع طرق الحج على الحجاج، فأشهر من أن تُذكر وتُوثر، حتى وصل الحال إلى تقديم الإتوات لزعماء القبائل التي تمر بديارهم قوافل الحجاج، ولم تسلم ربوع المشاعر المقدسة من مهاجمة بعض الأعراب، بسبب الفقر المدقع والمجاعة القاتلة، أما المجاعة والأمراض؛ فغالبًا ما تعصف بأبناء الجزيرة العربية جميعًا وتفتك بالآلاف منهم وتتركهم (كالعصف المأكول)، وقد ضربت الأمية أطنابها في طول الحزيرة العربية وعرضها، وحدث ولا حرج عن تغلغل الخرافات، والدجل، والشعوذة، التي فرخت بربوع الجزيرة العربية، وألقت بجرانها وعشعشت في القلوب والعقول والمشاعر (إلا من رحم الله).
ومع بزوغ شمس القرن الحادي عشر، سطعت شمس التوحيد والتجديد من قلب الدرعية النابض بالوعي الجديد والمثابر والنشط، على يدي الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمهما الله) عبر إقامة دولة تحمل هم تجديد الدعوة، وتوحيد الجزيرة العربية، وعادت للجزيرة العربية أستاذيتها وريادتها وقيادتها بعد قرون عجاف محزنة، وهاهي تتربع الآن بلا منافس على زعامة العالم العربي والإسلامي، ومن حق المحلل والراصد والناقد الفاحص التاريخي، أن يبحث عن الأسباب والعوامل التي أحدثت هذا التغيير الجذري لواقع الجزيرة العربية وفق فقه السنن الإلهية ونظريات تفسير التاريخ.
في ظل عهود الدولة السعودية الثلاثة، والذي يمكن تلخيصه فيما يلي:
١- اقتفاء النهج النبوي الذي جمع بين الدعوة والوحدة .
٢- اتخاذ الإسلام البريء من الخرافات والدجل والشعوذة منهجًا لهذه الدولة الفتية .
٣- الحرص على توحيد كامل تراب الجزيرة العربية، والقضاء على النتواءت هنا وهناك.
٤- الأخذ بأسباب النهضة والتقدم الحضاري، والانتقاء الواعي المفيد، ونبذ كل ضار ومبيد .
٥- الاهتمام بسياسة الاحتواء والمساواة الكاملة، والعدل بين سكان المملكة العربية السعودية .
٦- الاهتمام بالأمن بمعناه الشامل، فلم تلوث الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية والعلمانية والليبرالية العقل الجمعي للشعب السعودي، فمنذ توحيد الجزيرة العربية باسم (المملكة العربية السعودية) دُشنت أعظم نهضة عرفتها الجزيرة العربية، بما برزت بمراحل الحضارات القديمة في شبه جزيرة العربية.
فالأوباش والغوغائيون، الذين يلتمسون العيوب والمآخذ على المملكة في خدمة الحج والحجيج والعمار والزوار جميعهم مؤدجلون سياسيًا وعقائديًا، وأخلاقيًا، سواء علموا ذلك أم لا يعلموا، فقد وقعوا في شر أعمالهم؛ حيث يشهد المسلمون من بداية القرن الماضي حتى الآن، جيلًا بعد جيل على تفرد المملكة وكفاءتها وتميزها وخصوصيتها وتجاوزها القنطرة، وهو مصطلح في علم الحديث يطلق على كل من يقبل حديثه، وحاز لقب (ثـقة الثـقة) مقترنًا بمصطلحات الإمامة الشرعية والأمانة العلمية..إلخ؛ بحيث لا يختلف عليه ثـقـته وإمامته اثنان من أهل العلم والبصيرة، وهذا ما ينطبق على خدمة المملكة للحج والحجاج والعمّار والزوّار، وعلى المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمشاعر المقدسة، (شكلًا ومضمونًا، ومعنى ومبنى، وكمًا وكيفًا) طال جميع المناحي والاتجاهات التي تُسابق الزمن تطورًا ونهضة وأمنًا.
0